يستمر مسلسل كيل الاتهامات جزافا دون العودة الى العقل والمنطق في تفسير الظواهر سواء أكانت تلك الظواهر طبيعية أي بفعل الطبيعة أم غير طبيعية أي بفعل الانسان وهذه الأخيرة تقع ضمن خانة عمل الشيء أو الامتناع عن عمله؟ فالأنسان قادر على إحداث ضرر ما بالقيام بعمل معين من شانه الحاق الضرر أو الامتناع عن أداء عمل معين من شأنه الحاق نفس الضرر؟! كمن يحرق حقلا زراعيا بأشعال النار فيه عمدا ورجل الإطفاء الذي يمتنع عن إخماد الحريق الذي شب في ذلك الحقل؟ النتيجة واحدة وهي الضرر الذي لحق بذلك الحقل، فالأول قام بالعمل والثاني امتنع عن أداء العمل.
ظاهرة نفوق الأسماك اليوم تدعنا نطرح العديد من التفسيرات ذات العلاقة بالعقل والمنطق حول أسبابها بالرغم من ان المعنيين بالأمر سواء أكانوا من المربين أو من المسؤولين وكي لا يلاموا أسندوها الى نظرية المؤامرة؟! فمنهم من يتهم دولة جارة بهذا الفعل ومنهم من يتهم الحكومة نفسها ومنهم من يتهم منافسيه الذين يعملون في نفس المهنة ومنهم من يتهم ميليشيات منظمة وهناك من يتهم أمريكا وإسرائيل وهكذا…، فكل يغني على ليلاه وكل يرمي الكرة في ملعب الاخر ليتخلص من تفسير الأسباب المنطقية للظاهرة.
إن ظاهرة نفوق هذا العدد الهائل من الأسماك وبهذه الطريقة وبهذا الوقت بالذات وفي ظل ظروف البلد بشكل عام وظروف التربية الخاطئة والظروف البيئة القاسية بشكل خاص لا يثير الاستغراب لو تم تفسيره بشكل منطقي وسليم وعلى أساس العقل والمنطق ولا يحتاج الى اتهام هذه الجهة أو تلك بقدر الحاجة الى مراجعة الأسباب التي أدت الى هذه الظاهرة الغريبة عند البعض والطبيعية جدا إذا ما قورنت بالأسباب المنطقية التي أدت الى حدوثها ومن أهم تلك الأسباب:
1- زيادة عدد المربين بشكل يتجاوز الطاقة الإنتاجية الطبيعية وحاجة السوق وهذا يؤدي الى زيادة استهلاك الموارد الطبيعية المتوفرة في المياه والتي يحتاجها المشروع على حساب المتوفر منها فعلا وبالتالي ينعكس سلبا على صحة وسلامة المنتج، فالبيئة التي يعمل فيها المربون تعتمد على موارد النهر الطبيعية وهذه محدودة ولا تتحمل العدد الهائل من المشاريع.
2- البيئة المناسبة للتربية، فتربية الأسماك أو اي حيوان حقلي لغرض الاستفادة منه في الغداء في بيئة إنتاجية يجعل المشروع بحاجة الى ظروف بيئية خاصة جدا تختلف عن تلك التي يعيشها الحيوان في بيئته الطبيعية جيلا بعد جيل فهذه الأخيرة تجعل منه مقاوما للكثير من الامراض والأجواء القاسية، فمن يربي الدجاج أو الماشية في البيوت او المزارع المفتوحة ليس كمن يربيها في حقول إنتاجية, ونتيجة للجفاف الذي يعاني منه العراق وارتفاع درجات الحرارة بشكل غير طبيعي فلا يخفى حتى على ابسط دارس للجغرافية في المرحلة الابتدائية بأن شحة مياه الأنهار وانخفاض مناسيبها وارتفاع الحرارة يؤديان الى زيادة الملوثات و يعدان أهم الأسباب لانتشار الأوبئة والامراض خصوصا عندما يرافقها الجهل في العمل واتخاذ إجراءات عمل بدائية وغير علمية وغير مدروسة, وهذا ينطبق على صحة الانسان نفسه وأفضل مثال على ذلك هو ظاهرة انتشار حالات التسمم بين سكان مدينة البصرة نتيجة لزيادة الملوثات.
3- الجهل والطمع، فالمربي ينظر دائما الى الأرباح دون أن يرغب بصرف دينار واحد على المشروع متناسيا بأن الأرباح لا تأتي بسهولة مالم يصرف على مشروعه ويرعاه بشكل مدروس وصحيح، فمعظم أصحاب هذه المشاريع يتصور نفسه بأنه أعلم بما يقوم به بحكم التجربة حتى وإن كانت تجربته بسيطة ولذلك فهو لا يفكر بالاستعانة بالطبيب البيطري أو المهندس الزراعي المختص للأشراف على المشروع ويكتفي بالاستعانة بهم عند حدوث الكارثة وبعد فوات الأوان.
4- حمى المنافسة، من المعروف عن العراقيين ولأسباب عديدة أنهم يتسابقون في المنافسة على مشروع ما عند نجاحه حتى يصلوا الى مرحلة المنافسة غير الشريفة في العمل والتي تتنافى مع اخلاق العمل التقليدية وقوانينها! فتجد أن الفشل هو مصير معظم المشاريع في العراق، فاذا فتح أحدهم مطعما ونجح في عمله تجد جاره يسرع الى تغيير مهنته وتجارته ليفتح مطعما بجانبه وهكذا بالنسبة للمشاريع الاخرى وبالتالي تفشل جميعها أو معظمها بسبب عدم الخبرة وزيادة العرض على حساب الطلب الذي يؤدي الى بدأ حرب المنافسة غير الشريفة وهذا ما حصل فعلا مع مربي الأسماك الذين أصبح عددهم بالآلاف لسهولة المشروع في تصورهم وعدم حاجته الى رأس مال كبير.
5- انعدام دراسات الجدوى، ففي كل دول العالم المتقدمة أو التي تسعى لأن تتقدم، لا يسمح بفتح أبسط مشروع مالم يكن هناك دراسة جدوى تقوم بها جهة علمية متخصصة لهذا الغرض وهذا لم يحصل ولن يحصل في العراق بسبب الفوضى التي تعم كل مفاصله، فالكل يعمل بما يمليه عليه عقله وما يملكه من رأس مال، ففي المشاريع التي تحتاج الى إجراءات قانونية لفتحها تجد الرشوة هي الفيصل وهي المفتاح الذهبي لفتح المشروع! فما بالنا بنصب اقفاص على حافات النهر وتربية الأسماك فيها؟
6- انعدام الرقابة الحكومية، غالبا ما يذكرني موقف حكومتنا بموقف الأم المهملة التي تخلف وتترك أولادها عراة في الشارع من الصباح حتى المساء دون أن تسأل عنهم بل تقوم بضربهم وشتمهم حين يكونوا أمام عينها وإذا تعرض أحدهم لحادث ما أو وقع وجرح أو تعرض لضربة من قرينه تجدها تخرج الى الشارع مولولة لا تتوانى عن تمزيق ملابسها نافضة شعرها بيدها لاطمة على خديها؟!! وهذا ما يحصل بالضبط حين تنتشر ظاهرة معينة فان الحكومة تحشد كل طاقاتها الإعلامية والسياسية لتبدي اهتمامها في الوقت الذي لم تقم فيه بأي دور رقابي للحيلولة دون حصول الكارثة وهو ابسط واجباتها؟!!
7- المسؤولية التضامنية بالتقصير، تعريجا على النقطة السابقة وبرغم مسؤولية الدولة عن الرقابة لكن ذلك لا يعني أنها المسؤول الوحيد عن هذه الكارثة البيئية أو غيرها من الكوارث السابقة واللاحقة ، فالمربي بشكل خاص والمواطن والاعلام والمؤسسة الدينية والمؤسسات التعليمية كالجامعات وغيرها ومنظمات المجتمع المدني بشكل عام مسؤولة مسؤولية تضامنية عما يحدث، فالوزير لا يستطيع ان يسيطر على ظاهرة معينة تؤدي الى حدوث كارثة ما حتى وإن كان في الميدان, والمسؤول لا يستطيع متابعة كل شاردة وواردة دون الاعتماد على المجتمع وهذا معمول به حتى في الدول المتقدمة فالوعي الجماهيري والروح الوطنية والاحساس بالمسؤولية جميعها تساند المسؤول في عمله وهذه تنشأ نتيجة للبرامج التثقيفية التي توجهها الجهات المؤثرة كوسائل الأعلام ورجل الدين والأستاذ الجامعي وغيرهم, فالمواطن العراقي ليس بحاجة اليوم الى سرد الاخبار العالمية وتذكيره بماسي العراقيين التي تقدمها البرامج اليومية بأسمائها المنمقة عبر عشرات الفضائيات وليس بحاجة لمن يعلمه كيفية الوضوء والصلاة أو يعيد عليه المقتل في كل مناسبة بقدر ما يحتاج الى التوعية وزرع الروح الوطنية وتحمل المسؤولية في كيفية استخدام موارده الطبيعية التي تتناقص يوما بعد يوم نتيجة الجهل وانعدام الوعي في استخدام تلك الموارد وبالنتيجة سيخسر كل ما كان يملكه وكل ما اشتهرت به ارقى حضارات العالم الا وهي حضارة وادي الرافدين.
8- ازدهار نظرية المؤامرة، أختم مقالي هذا بهذه النقطة المهمة التي باتت الجواب الأول والسهل لكل الأسئلة التي تتعلق بما يحصل في العراق من كوارث طبيعية وبشرية؟ فكل كارثة يمر بها العراق يكون اسنادها بشكل سريع الى جهة خارجية سواء أكانت تلك الجهة عالمية أم إقليمية أو حتى محلية لأبعاد مسؤولية التقصير عن المسؤول الفعلي عنها ورميها على عاتق جهة وهمية لا علاقة لها بها أصلا، حتى ضاعت الأسباب والمسببات الفعلية بسبب هذا السلوك، ففي الوقت الذي اهتمت فيه تركيا وإيران كونهما صاحبتا حق في حصص المياه بالعمل على أيجاد أفضل السبل للحفاظ على هذه الثروة التي باتت مهددة نتيجة التغيرات البيئية على كوكب الأرض لأحياء أراضيهما وتنمية زراعتها فقامتا بأنشاء السدود والبحيرات الصناعية رغم ضعف اقتصاداتهما لتوفرا بدائل لدعم الاقتصاد كان العراق يضيع مليارات الأمتار المكعبة من المياه التي ينتهي بها المطاف الى البحر دون ان يستفيد منها متر زراعي مربع واحد بسبب الإهمال والفساد, وحين وصل الحال لما نحن عليه اليوم بدأت وسائل الاعلام الحكومية والأهلية بكيل الاتهامات وثارت ثائرة الحكومة والبرلمان وراجت نظرية المؤامرة ضد تلك الدولتين رغم قيامهما بعمل صحيح يصب في مصلحة بلديهما وشعبيهما حتى وإن تجاوزا على حقوق العراق المائية فنحن من اعطاهم الحق في ذلك بسبب السكوت وعدم التحرك وضعف الحكومات السابقة وتفشي الفساد, فلا غرابة أن تسند تهمة نفوق الاف الأسماك اليهما أو لغيرهما حتى وأن كانت تلك الجهة تعيش في كوكب أخر.