لا تبدو الإجابة على سؤال سهلة أو مباشرة، فهي ترتبط بمنظومة كاملة من التحديات التراكمية التي باتت تعيق جوهر العملية الديمقراطية في العراق.
يُنظر إلى الانتخابات في ظاهرها على أنها تعبير عن إرادة المواطن في اختيار من يمثله داخل البرلمان، لكنها في واقع الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، إذ لا يكفي أن تقتنع بشخص ما حتى يُمثّلك تمثيلاً فاعلاً فالأمر لا يتوقف على النوايا أو الكفاءة الفردية بقدر ارتباطه ببنية النظام النيابي نفسه، وبالسياق الحزبي الذي يتحكم في العملية التشريعية.
النائب البرلماني وبحسب النظام المعتمد مهما كانت كفاءته يبقى محدود التأثير ما لم يكن جزءاً من كتلة سياسية تمتلك رؤية واستراتيجية وقدرة تفاوض داخل البرلمان. الأحزاب، لا الأفراد، هي صاحبة الصوت والموقف والقرار. ومن هنا، لا بد أن تنصبَّ الرؤية الانتخابية على اختيار مرشحين أكفاء ينتمون إلى أحزاب تحمل برامج واضحة وتمثّل ولو بشكل نسبي، القناعات العامة للناخبين.
لكن الوصول إلى هذه المرحلة دونه عراقيل متراكمة أبرزها أن النظام السياسي العراقي ما زال يعاني من أعراف طائفية تمكّنت من ترسيخ نفسها منذ الانتخابات الأولى، وعلى الرغم من عدم وجود قانون صريح يكرّس هذا النهج، إلا أنه بات عرفاً سائداً، يقسّم الناخبين بحسب انتماءاتهم لا بحسب برامجهم أو أولوياتهم.
في مواجهة هذا الاصطفاف الهوياتي، ظهرت قوائم وطنية تعتمد الهوية الوطنية أساساً للعمل السياسي، لكنها – من خلال التجربة – لم تحظَ بوعي جماهيري كافٍ يمنحها الغلبة أو التمكين. وجودها ضروري وواعد، لكنه ما زال في بداياته، يفتقر إلى قاعدة اجتماعية واسعة تُدرك أهمية الخروج من الاصطفاف الضيق نحو المشروع الوطني الشامل.
إلى جانب هذه الإشكالية البنيوية، تبرز مسألة التمويل الانتخابي، التي أصبحت ساحة مفتوحة للمبالغة والإسراف واستغلال المال السياسي. فبعض الجهات المتنفذة تصرف مبالغ طائلة على حملاتها، لتكريس حضورها عبر الإعلانات والولائم والهدايا واستمالة الأصوات.
وهذا يطرح سؤالاً أخلاقياً طالما تأجّل: من أين لك هذا؟ وهو سؤال يجب أن يتحول إلى ثقافة راسخة تُفعل في كل دورة انتخابية لا أن يُهمَل أو يُستبدَل بالإعجاب الزائف بالمظاهر.
أما المقاطعة، فهي خيار اتخذه كثير من المواطنين في الدورات السابقة، احتجاجاً على تردي الأداء العام أو فقدان الثقة بالمنظومة. لكن السؤال الملح: هل المقاطعة مجدية؟
حين نرجع إلى قانون الانتخابات العراقي، لا نجد فيه ما يشير إلى إلغاء النتائج إذا انخفضت نسبة المشاركة. بمعنى أن الانتخابات ستُعدّ شرعية مهما كانت نسبة المصوّتين، ما دام الإطار القانوني لا يشترط حداً أدنى للاعتماد.
وهذا يعني عملياً أن المقاطعة قد تُفضي إلى نقيض هدفها، فتُمهّد الطريق لهيمنة من لا يمثلون المقاطعين، وتترك الساحة خالية من أي تمثيل بديل.
في ظل هذا الواقع، يبقى الخيار الوطني الواقعي هو: الاختيار الواعي. على المواطن، مهما كان بسيطاً أو بعيداً عن مراكز النفوذ، أن يُحسن التمييز بين البرامج والشخصيات، وأن يختار ما يتقاطع مع قناعاته من حيث المشروع الوطني أو الديني أو الاجتماعي.
المطلوب بعيداً ن المثاليات المطلقة، ترجيح للأنسب ضمن الممكنات، وعلى الناخب أن يُدرك أن الأشخاص، مهما بدوا نزيهين، إذا لم يسندهم حزب قوي داخل البرلمان، فسيجدون أنفسهم معزولين عن التأثير.
كما ينبغي الحذر من الحملات الشعبوية غير المسؤولة، التي تهاجم الجميع دون تمييز، أو تلك التي تُجيّش الشارع ضد مؤسسات الدولة عبر استثمار القصور في الخدمات. نعم، هناك إخفاقات كثيرة في البنية التحتية، في التعليم، في الصحة، في الخدمات الأساسية… لكن هذه المشاكل نتيجة تراكم طويل، تداخلت فيه آثار الحروب والعقوبات والفساد وسوء التخطيط. ولا يجوز أن تُستغل تلك المعاناة لتصفية حسابات سياسية ضيقة.
المواطن المعتدل ليس محايداً، وانما منخرطاً بوعي ومسؤولية ويوازن بين النقد والتقدير، بين الواقعية والطموح.
الوطن لا يمكن بناؤه بيوم واحد بحجارة تُرصف ببطء ولكن بثبات يمكن ان يتحقق ذلك ولو تعددت الايام. ولكل صوت، مهما بدا ضعيفاً، أثر في تحديد شكل هذا البناء.