مثّلت الاتفاقيات الابراهيمية تحولًا جذريًا في الدبلوماسية في الشرق الأوسط، حيث أرست أسس التطبيع بين إسرائيل والعديد من الدول العربية. ومع تصاعد الحديث عن إمكانية انضمام المملكة العربية السعودية إلى هذه الاتفاقيات، يبرز السؤال: هل يمكن أن يستمر هذا المسار في ولاية ترامب الثانية! يعتمد استمرار هذه المبادرة على حسابات جيوسياسية معقدة، تتعلق تحديدًا بالتهديد الإيراني، والضمانات الأمنية الأمريكية، والديناميكيات الإقليمية الداخلية.
أحد أقوى الدوافع التي قد تدفع السعودية إلى الانضمام إلى “الاتفاقيات الابراهيمية” هو التوافق مع إسرائيل بشأن التهديد الإيراني، فقد واجهت المملكة السعودية تهديدات مستمرة من طهران ووكلائها في المنطقة، بما في ذلك الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان والميليشيات العراقية المرتبطة بايران. ووفقًا لرؤية القيادة السعودية، التي عبر عنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فإن التصدي للنفوذ الإيراني يُعدّ ركيزة أساسية في السياسة الخارجية للمملكة. ونظرًا لأن إسرائيل تشترك في هذه الرؤية، فإن التطبيع يمكن أن يُنظر إليه على أنه تحالف استراتيجي بدلاً من كونه تحولًا أيديولوجيًا.
بالنسبة للسعودية، فإن توقيع اتفاق رسمي مع إسرائيل يرتبط أيضًا بالحصول على دعم عسكري وتكنولوجي أكبر من الولايات المتحدة. في ظل استمرار التهديدات الإيرانية وعدم استقرار المنطقة، تسعى المملكة إلى ضمانات أمنية تُمكّنها من الدفاع عن نفسها في حال تصاعدت التوترات. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قدّمت مساعدات عسكرية كبيرة لحلفائها الخليجيين، إلا أن السعودية ترى في التطبيع وسيلة لتعزيز التعاون الأمني مع واشنطن على المدى الطويل، بما يشمل الحصول على أسلحة متقدمة وأنظمة دفاعية. ويمتد هذا الأمر أيضًا إلى المجال النووي، حيث تسعى المملكة إلى تطوير برنامج نووي مدني، قد يصبح جزءًا من المفاوضات مع الولايات المتحدة.
ومع ذلك، تظل المعارضة الشعبية للتطبيع أحد العوائق الرئيسية أمام المضي قدمًا. تشير الأبحاث التي أجراها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إلى أنه على الرغم من أن الاتفاقيات الحكومية مثل الاتفاقيات الابراهيمية تعزز التعاون الاقتصادي والأمني، إلا أنها تفتقر إلى الدعم الشعبي الواسع. تُظهر الاستطلاعات أن معظم الشعوب العربية لا تزال تنظر إلى التطبيع على أنه تخلٍّ عن القضية الفلسطينية. وهذا يمثل تحديًا للقيادة السعودية، التي يجب أن توازن بين مصالحها الأمنية والاقتصادية وبين الحساسية الشعبية والإقليمية. حتى في الدول التي انضمت إلى الاتفاقيات مثل البحرين والمغرب، لا تزال هناك احتجاجات ورفض شعبي.
تشير أنماط التفاعل في الدول التي لم تنضم إلى الاتفاقيات، مثل العراق ولبنان، إلى بروز استعداد متزايد لإعادة تقييم المواقف التقليدية. على الرغم من أن القبول الواسع للتطبيع لا يزال مستبعدًا في المستقبل القريب، إلا أن شخصيات مثل صالح المشنوق في لبنان وفائق الشيخ علي في العراق تعكس تحولًا في الخطاب السياسي، لا سيما بين أولئك الذين يفضلون المصالح الوطنية على المعارضة الأيديولوجية لإسرائيل. وقد يسهم انضمام السعودية إلى الاتفاقيات في تعزيز هذا التوجه، خصوصًا إذا ما تم تقديم التطبيع على أنه وسيلة لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي.
إحدى القضايا الرئيسية التي تؤثر على استدامة الاتفاقيات الابراهيمية هي استقرار الأنظمة الخليجية على المدى الطويل. على عكس العراق حيث يسود عدم الاستقرار السياسي ويتزايد النفوذ الإيراني، فإن الدول الخليجية تمتلك قدرًا أكبر من السيطرة الداخلية مما يجعل اتفاقيات التطبيع أكثر استدامة. ومع ذلك، إذا أعادت إيران أو وكلاؤها في المنطقة تصعيد أنشطتهم العدائية، فقد تتردد الدول الخليجية في توسيع تعاونها مع إسرائيل خوفًا من ردود فعل داخلية أو من تصعيد عسكري إيراني. من جهتها، تسعى إسرائيل إلى إبقاء دول مثل العراق ولبنان ضعيفة بما يكفي لمنع الهيمنة الإيرانية، ولكن مستقرة بما يكفي لتجنب الانهيار التام.
انضمام السعودية إلى الاتفاقيات الابراهيمية سيكون خطوة مهمة في الدبلوماسية الإقليمية، ولكن نجاح هذا المسار يعتمد على تحقيق توازن دقيق بين المصالح الاستراتيجية والرأي العام والمشاركة الأمريكية. لقد لعبت إدارة ترامب دورًا رئيسيًا في إبرام الاتفاقيات الأولية، من خلال تقديم حوافز اقتصادية وضمانات أمنية. ومع ذلك، يبقى من غير الواضح ما إذا كانت أي إدارة أمريكية مستقبلية قادرة على تكرار هذا النجاح، خاصة إذا تضمنت المطالب السعودية تعزيز الدعم العسكري والتعاون النووي، وهي أمور قد تكون حساسة سياسيًا داخل واشنطن.
مستقبل الاتفاقيات الابراهيمية لا يعتمد فقط على القيادة الأمريكية، بل أيضًا على تطورات المشهد الإقليمي. وعلى الرغم من أن التعاون الاقتصادي والتكنولوجي يشكلان دوافع قوية للتطبيع، إلا أن العامل الحاسم يظل مرتبطًا بواقع النفوذ الإيراني واستقرار المنطقة. تدرك القيادة السعودية أن أي اتفاق يجب أن يحقق فوائد أمنية واقتصادية ملموسة. وإذا توفرت هذه الشروط، فإن التطبيع يظل احتمالًا قائمًا، لكنه سيحتاج إلى جهود دبلوماسية مكثفة واستثمارات استراتيجية طويلة الأمد.
د. فيصل المطر.. زميل جامعة جورج واشنطن – نيويورك