يروى أن مجموعة من المسلمين الأوائل كانوا يتنقلون في الصحراء فرأوا خيمة متهرئة وسط تلك البقعة القاحلة لم يكن فيها سوى عجوز يتعبد لله فسأله أحدهم مستغربالما رأى, بمَ عرفتَ الله؟ أي كيف عرفتَ الله؟ ومما لاشك فيه أن يثير هذا الأمر كل ذلك الاستغراب في حينها, فمن يجد عجوزا يتعبد لله في وسط تلك الصحراء في زمن كان الدين الإسلامي في مهده والدعوة مازالت في حيز ضيق ولم يكن هناك اية وسيلة للتواصل كما هي اليوم, فأجابت الرجل العجوز “البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير فكيف بخالق السماوات والأرض”, إجابة فطرية تدل على معرفة دقيقة بماهية الله.
منذ أن دفعني ذلك القارب المطاطي مع أربعين شخصا بينهم أطفال ونساء لا حول لنا ولا قوة تتقاذفنا أمواج البحر الهائجة وكأننا قشة في سيل جارف, قارب هيئه لنا أحد المؤمنين الورعين من أؤلئك الذين طبع الأيمان جباههم وبانت على وجوهم سيماء الورع والتقوى لكنه بعد أن شفط ما في جيوبنا باسم الله واعدا إيانا بسفرة أمنة في قارب سياحي بخمسة نجوم لضفة الأمان صرنا في قارب مطاطي تتزاحم فيه الأجساد وكأننا سمك صغير في علبة سردين وما إن وضعنا أقدامنا فيه حتى اختفى الأيمان من وجه ذلك المؤمن وتلاشت سيماءه ودفعنا في الماء وتركنا لقدرنا المحتوم.
في ذلك البحر, ساعات وأنا أتفكر في وجود الله ومعرفته, مستعرضا حياتي الماضية كشريط سينمائي, متذكرا كل الوجوه التي هجرتنا باسم الله وقتلتنا باسم الله وسرقت فرحتنا وأحلامنا باسم الله وصادرت أنفاسنا باسم الله, متسائلا هل هي الوحيدة التي تعرف الله في هذا العالم ؟ لم أجد الجواب حتى وصلنا الى بر الأمان وتلاقفتنا أيادي بيضاء ناصعة شكلا ومضمونا, أيادي احتضنتنا وقدمت لنا أثمن ما فقدناه (انسانيتنا وكرامتنا) دون أن تسأل أو تعرف من نحن ومن أي ملة أو دين أو عرق أو فكر, أناس لم تكن عندهم تلك المآذن التي تلعلع أصواتها بالأذان خمس مرات في اليوم, ولم يكن لديهم بين الجامع والآخر حسينية ومرقد مقدس ولم يكن لديهم ذلك الكم الهائل من الملتحين والمعممين والمفتين ولم يتختموا باليمين أو يحملوا مسبحات سود أو طررا في الجبين إنما كانوا بشرا عرفوا الله بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم وأن من أحيا نفسا كأنما أحيا الناس جميعا ومن قتل نفسا بغير حق كأنما قتل الناس جميعا.
هنا عرفت الله وتطورت علاقتي به, عرفت الله حين امرض وأذهب للمستشفى ويعالجني الطبيب ويهتم بي أيما اهتمام دون أن يسألني عن ملتي وديني وعرقي وتوجهي وحين أجد مساعدة مالية تمنحها لي وتنزل في حسابي كل شهر دون تأخير وحين سلموني مفتاح شقتي المؤثثة بكل ما أحتاج دون أن أدفع سنتا واحدا وحين تتصل بي مشرفتي يوميا لتطمأن عن حالي وعن وضعي وعن احتياجاتي وحين أدخلوني مدرسة لأتعلم لغتهم وأكمل دراستي التي أحلم بها بعد أن حرمني منها أولياء الله في بلدي, وحين ارى الوجوه المبتسمة في كل دائرة أدخل فيها, عرفت الله بتلك الرحمة وذلك السلوك الإنساني في بلدان لم تكن الكنائس فيها سوى معالم سياحية ولم تكن الأديان إلا علاقات محضة بين الإنسان وربه ووجدت أن كل الأديان محترمة تحت خيمة العلمانية الكافرة.
هل هناك في بلدي من يعرف الله فعلا؟ هل يعرف الله من شفط اموال الخدمات وترك الناس تموت من شدة الحر صيفا دون كهرباء؟ ومن سرق خيرات بلدي باسم الدين وجعل عزيز القوم يشحذ قوت يومه؟ ومن فجر رؤوس وثقب صدور المئات لأنهم طالبوا بأبسط حقوقهم المشروعة؟ أو تلك المسوخ التي أفتت بقتل الكلمة الحرة وسرقت منا هشام الهاشمي؟
أتركوا الخلق للخالق ودعوا الناس تعيش مثلما يعيش باقي البشر واكفوهم شركم فإنهم يعرفون الله بالفطرة فالله ليس بحاجة لوكلاء أو وسطاء والله أقرب منكم إلى البؤساء والفقراء والمساكين وأبعد ما يكون عن الدجالين وتجار الدين, وكفاكم ظلما للعباد وسرقة للبلاد تحت غطاء الدين وخرافات المشعوذين وإعلموا إن كنتم لا تعرفون الله فالله يعرفكم ويعرف كيف يقتص منكم “وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون”.