لقد شكلت الخطب الأسبوعية للمرجع الأعلى في النجف السيد علي السيستاني إحدى أكثر الحلقات تناغما مع مسلسل الحراك الشعبي الذي تطور الى ثورة لم تنطفئ رغم مرور ما يقرب من 100 يوم على اندلاعها، حتى بات أحدهما يغذي الآخر ويدعمه، في واحدة من أندر حالات التفاعل مع الحراك، رغم كل محاولات المجاميع والتنظيمات الاسلامية الشيعية (المناهضة لهذا النوع من الاحتجاج بسبب التقاطع السياسي والايديولوجي)، لقطع الحبل السري بينهما، فسعت لافتعال وافتراء كل ما يلزم لتحقيق ذلك، إلا أنها لم تنجح لغاية الان.
إن النبرة الثورية في خطب المرجعية الدينية شهدت تناميا ملحوظا، جاء بالتماهي مع تصاعد حالات العنف وارتفاع مجموع الضحايا والمصابين والمعاقين والمعتقلين والمخطوفين الى ما يقرب من 32 ألفا، في ظل تفاقم الانسداد السياسي، واستمرار أزمة تشكيل الحكومة المؤقتة التي ستقتصر مهمتها على تهيئة الأرضية الصلبة لانتخابات مبكرة في النصف الثاني من العام المقبل، وفقا لقانون انتخابات جديد يُفترض أن يكون منصفا (نسبيا هو أفضل من السابق لكنه لازال يحتوي على ثغرات)، لتضع البلاد على أعتاب مرحلة جديدة قد تمهد لمشهد سياسي جديد.
هل انحاز للسلطة أم للشعب؟
إن مدرسة النجف التي تمكنت في القرن الحادي عشر الميلادي من تشييد مؤسستها -على يد الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (995- 1050م)- وتثبيت أركانها والحفاظ على استمراريتها، بعيدا عن أموال السلطة وتدخلها، كأول نموذج مستقل ماليا واداريا بفضل الاكتفاء الذاتي ماليا (خمس/ زكاة/ حقوق شرعية من عامة الشيعة الذين يرون فيها ممثلا وراعيا)، وسياسيا (الاختلاف المذهبي والفقهي عن السلاطين والخلفاء وأتباعهم الذي منحها قدرا من التحرر عن توجيه السلطات)، وهو نهج درجت عليه المرجعية الدينية منذ القدم، ما جعلها أكثر التصاقا بشارعها، كونه مصدر سلطتها الروحية والمالية الذي أغناها عن أية سلطة على مر تاريخها الطويل.
إدراك هذه الحقيقة التاريخية، يجعل المتابع لخطاب السيد السيستاني منذ اندلاع الأزمة الأخيرة وما قبلها بسنوات، مدركا تماما بأنه واحد من أكثر مراجع النجف وفاءً لإرثها في الحفاظ على المسافة التاريخية بينه وبين السلطة، حتى مع التحول السياسي الكبير الذي كسر أنماط الحكم التقليدية، وأوصل الى السلطة طبقة سياسية جديدة تدعي الانتماء له، لذا فمن الطبيعي انحيازه الى الناس والوقوف ضد السلطة، خصوصا بعدما أيقن أن جميع الشرائح الاجتماعية خرجت الى الشارع معترضة على السلطة وفسادها.
وفاءُ السيستاني لنهج النجف، وبالخصوص لمدرسة سلفه الشيخ محمد حسين النائيني (1860- 1936م)، ذهب به الى كسر الخطاب الطائفي، والخروج على الأنماط الفقهية التقليدية، والتأسيس لخطاب وطني يتجاوز الانتماءات الدينية والطائفية داخل البلاد، حيث دعا في آخر خطبة جمعة، على سبيل المثال الى “اختيار الكفوء والقادر، بعيدا عن المناطقية والمذهبية والعشائرية والقومية”، وهي دعوة واضحة لدولة مدنية عادلة، أسقطت ضمنا جميع المقولات التي تبنتها أحزاب الاسلام السياسي وبنت عليها خطابها ونظرياتها التي تحوم حول الخطاب المذهبي والديني حصرا.
السيستاني.. بين الراديكالية والمؤسساتية
ولو أضفنا الى تلك الدعوة، دعوات أخرى مهمة للسيستاني، من قبيل تركيزه على حصر السلاح بيد الدولة، لاكتشفنا أهمية البعد المؤسساتي في فكره وتشكيل خطبه الأسبوعية، وهذا ما وضعه في أبعد نقطة عن الراديكالية التي عانت منها المجتمعات العربية والاسلامية في العقود الأخيرة، إذ يتضح ذلك من خلال تركيزه على قيم المؤسسات وضرورة الاصلاح من داخلها، فضلا عن إيمانه المطلق بعِلوية القوانين التي يشرعها مجلس النواب، واعتبار الشعب مصدرا للسلطات، كل ذلك يوضح بما لا يقبل الشك إصراره على نظرية “ولاية الأمة على نفسها”، والرافض لنظرية “ولاية الفقيه”، وكل ما يتفرع عنها من تشكيلات حزبية وعسكرية واستخبارية واقتصادية تتأسس خارج نسق الدولة ومؤسساتها، وهذا يفسر حجم الإحباط الذي يعانيه المرجع الأعلى من الأحزاب السياسية التي تعاقبت على الحكم منذ 2003، بسبب تخليها عن دعم مؤسسات الدولة واستخدامها المذهب والدين للتعبئة السياسية، من دون ان تُنتج “سياسة عقلانية” تؤسس لدولة حديثة يطمح الى تحقيقها من خلال رفضه المتجدد للأساليب التقليدية في الفعل السياسي، من قبيل رفض المحسوبية والمنسوبية والقرابية في التعيين والاختيار، رغم تقديره لدور بعض العشائر، التي ينظر إليها كمكملة لعمل الدولة وليست بديلة لها كما يود بعض السياسيين منحها أدوارا إضافية.
الموقف من الاحتجاجات
بعد معرفة النهج السياسي للسيستاني، لابد أن نسلط الضوء على موقفه من الاحتجاجات الشعبية التي وصفها بمعركة الإصلاح، وترحم على ضحاياها، والهدف الذي يصبو الى تحقيقه من خلالها، إذ بات من الواضح أن العراق يقف على مفترق طرق أبرزها ثلاثة:
1- احتواء التظاهرات بأي طريقة كانت وإنهاؤها، حتى لو كان الأمر بالقوة واستخدام العنف المفرط، كما تحاول بعض التنظيمات والأحزاب السير في هذا الاتجاه، بدءا من اليوم الثاني للاحتجاجات (2 أكتوبر الماضي)، بهدف إعادة الامور الى نصابها والابقاء على آليات السلطة التي تخدم نفوذها، عبر ترسيخ المحاصصة الحزبية والطائفية والقومية في نظام الحكم، الامر الذي قوبل برفض قاطع من قبل المحتجين، وممانعة وإصرار أسطوري.
2- التغيير الجذري الشامل الذي يسعى لإسقاط النظام وآلياته الدستورية بالكامل، وطرد الأحزاب والنخب السياسية المشاركة في السلطة والبرلمان برمتها، والبدء بمرحلة جديدة تتماشى مع رغبة ثلة غير قليلة من المحتجين، إلا أن هذا الخيار يفتقر لخارطة طريق واضحة، ولا يملك رؤية للمستقبل، خصوصا مع عدم قدرة الحراك على إنتاج ممثلين بسبب الظروف السياسية والأمنية والاجتماعية، وفي ظل بلد ينهشه الانقسام والنفوذ الخارجي، الأمر الذي قد يودي بالبلد الى المجهول.
3- التغيير التدريجي للطبقة الحاكمة بالاعتماد على الآليات الدستورية النافذة، وأبرزها سن قانون انتخابات منصف (تم إقرار قانون لازال يثير الجدل)، وتأسيس مفوضية نزيهة للانتخابات (مع وجود مخاوف من انحيازها)، والدعوة لانتخابات نيابية مبكرة، وتختيار رئيس حكومة مؤقتة، كل ذلك وفق جدول زمني محدد، سيهدف لإحداث تغيير شامل في المشهد السياسي، ويضمن فتح الباب أمام طبقة سياسية جديدة تأخذ على عاتقها إتمام المهمة الأعقد، وهي القيام بتعديل جوهري في الدستور الذي يعاني من ثغرات عديدة، بما يتماشى مع بناء الدولة المنشودة لكل العراقيين.
إن هذا الطريق (الثالث والأخير) يمثل المصل والعلاج الذي لا غنى عن حقنه في جسد العملية السياسية الهرم، والذي من شأنه أن يُعيد له حيوية الشباب، لأن الطريقين الآخرين (الأول: إبقاء النظام على سرير المرض دون علاج، والثاني: قتله ودفنه بلا تخطيط لخلافته) كليهما على حد سواء، سيفتحان أبواب البلاد على مصراعيها أمام المجهول، لذا فان المتابع لخطب ومواقف المرجع الأعلى في النجف، يستنتج أن رفعه السوط بوجوه السياسيين لا يرقى الى إسقاط كل التجربة، وأن انتقاده لأعمال التخريب والحرق التي يقوم بها بعض المندسين بالاحتجاجات الشعبية لا يعني الدعوة لإنهائها وإخلاء ساحات الاعتصام، بل هي دليل واضح على سيره الهادئ نحو تغيير ناعم يكفل للعراقيين الانتقال السلس نحو دولة المؤسسات وولوج مرحلة سياسية جديدة تجنبهم حمامات الدم.