من جميع المكونات العراقية فإن من تذوّق، تابع.. عانى مرارة الاحتقان الطائفي وموجات الإرهاب بين الأعوام 2004ـ2007، والتحوّل الإيجابي الكبير الذي حصل بين الأعوام 2008ـ2010 كان يتصور للوهلة الأولى ان تلك الأيام السوداء، والتجربة الدموية الأليمة لن تتكرر بسهولة. في فترة الاستقرار تمت مراجعة الكثير من تلك التجارب المؤلمة، استعرضت وسائل الاعلام وبتفاصيل مملة حينها طبيعة ما جرى، أنجزت اعمال فنية باشكال مختلفة رصدت التحولات آنذاك بهدف انعاش الذاكرة العراقية والإنسانية، ودارت احاديث عن إعادة بناء النسيج الاجتماعي العراقي الذي تمزق. لكننا للأسف الشديد سرعان ما انحدرنا مرة أخرى وبسهولة من 2010 وحتى 2013 باتجاه المنحدر الطائفي البغيض بطريقة مشابهة كثيرا للتجربة الأولى ليتوّج المشهد بسقوط المدن العراقية عام 2014، فبدل “القاعدة” كانت هناك “داعش”، وبدل “مقاومة الاحتلال الأمريكي” كان هناك مبرر التخلص من “النفوذ الإيراني”، يقابله أيضا فشل الدولة في التغلب على هذه الازمة وقرائها بشكل جيد مبكرا، ناهيك عن ان المنطقة برمتها شهدت انقساما حادا استخدمت فيه الأموال، وسائل الاعلام، الفتاوى والنفوذ السياسي ساهم بوصول التصعيد الى ذروته.
ان المؤشرات التي كانت تقود لمشهد الاحتقان الطائفي في موسمه الأول، والثاني ذاتها يعاد تكرارها منذ العام 2018، وكاننا ننحدر تدريجيا بعد عام او عامين الى مشهد الماساة التي تمثلت عام 2006 بتفجير مرقد العسكريين في سامراء وعام 2014 بمجزرة سبايكر في صلاح الدين، هاتان حادثتان تمثلان رمزية لمرحلة معينة ولا تختزلان المشهد الدموي بلا شك.
احتقان سياسي، تاجيج للمناطق “السنية”، استحداث لافتات تتناسب مع متطلبات المرحلة، “المقاومة” في الموسم الدموي الأول، والاقليم إضافة للنفوذ الإيراني في الموسم الدموي الثاني، ويجري العمل حاليا على ذات السياق مع تعديلات بسيطة. ان ما يجري في اطراف ديالى، صلاح الدين والانبار بداية تلت مرحلة الخلايا النائمة، لندخل بعدها مرحلة سقوط مناطق ليلا وتحريرها نهارا ثم ربما سقوط قرى او مدن صغيرة. لكن المعطى المختلف هذه المرة وجود قوة موازية للجيش لم تكن موجودة آنذاك بهذا الشكل وهي الحشد الشعبي وهذا يمثل مبدئيا ورقة مهمة للتقليل من مخاطر أي انحدار موازي. من يحاول استدراج العراق لمستنقع طائفي يريد معالجة هذه الورقة او ابعادها عن مناطق تحركاته لكي تسهل المهمة.. المؤسف ان بعض فصائل الحشد الشعبي توفر غطاءا مناسبا لتمرير ذلك من خلال التماهي مع العقيدة السياسية الإيرانية بشكل مبالغ فيه لا يأخذ بعين الاعتبار خصوصية الوضع العراقي.
إن أساليب المعالجة لا تقتصر فقط على التحرك العسكري بل لابد من حراك سياسي يضبط إيقاع العقيدة السياسية للحشد الشعبي، يعيد تشكيل الجيش بطريقة لا تجعله منقسما ومستجيبا لصراع النفوذ كما حصل عام 2014 وأيضا عدم فسح المجال مبكرا للاصوات التي تدعو علانية للتحشيد الطائفي. لابد من الحذر والعمل بجد.. لقد سئمنا من هواية تكرار الخطايا بطريقة ساذجة. ختاما لابد من الإشارة ان الانقاسم الخليجي لا يعول كثيرا في تجنيبنا الصراعات الدموية، ان ذلك يحتاج الى مهارة سياسية عالية وهي غير متوفرة للأسف الشديد. قد ينعكس ذلك الانقسام بشكل سلبي علينا، ربما يكون العراق ساحة للصراع الخليجي الخليجي كما حصل في اليمن على سبيل المثال حينما تقاتلت فصائل مسلحة تنتمي لمحور واحد هناك وهذا قد يتكرر في العراق بين محاور مختلفة او بين اذرعة المحور الواحد. مما يساهم في تعقيد المشهد ان هناك احتقان في الشارع الشيعي تجاه الطبقة السياسية، وهذا الاحتقان قد يعبر عن نفسه باشكال مختلفة حالما يستغل ارتباك الدولة في المرحلة المقبلة، وربما يحاول اخرون توظيفه بطريقة سلبية تخرجه تماما عن مضمونه المشروع.