قرأت نصوص مسلة حمورابي البابلية وفيها 282 مادة ومقسمة إلى أثني عشر قسما تبدأ بالقضاء وتنتهي بحقوق الرقيق مرورا بساقية الخمر، لم أجد في بنود المسلة أية إشارة إلى كلمة “استحقاق” التي أوردها عراقيو اليوم الذين تنضح قوانينهم خجلا بين قوانين التاريخ والجغرافيا. ونحن أصحاب الكتابة الأولى وأصحاب أول القوانين!
عندما تقتضي توقيع شهادة الحياة المخجلة سنويا لأثبت أنني لا أزال على قيد الحياة ولم أمت بعد، لكي استحق راتبي التقاعدي، وأضطر للذهاب إلى السفارة العراقية لاستخراج تلك الوثيقة، فإنني أول شيء أفعله أن أقف وظهري لصورة رئيس الجمهورية إذ لا أطيق النظر إليه لشد ما هو مخجل شكلا ومضمونا، ليس لأنه كرديا بل لأنه أسوء الأكراد وأسوء العراقيين. وأنه أتى بدون أن أمنحه صوتي ورأيي، وجاء وفق حديث عابر حول طاولات الروليت، وردت كلمة الاستحقاق في ذلك الحديث العابر، حتى وإن كان على سبيل المزاح!
وعندما أصعد منصات ومسارح العالم حين يصار إلى تكريمي فإنني لم أرفع العلم العراقي يوما بيدي، لأنه مجرد “خرقة” قماشة كتب عليها الطاغية الأرعن والمقيت بخط يده كلمة” الله أكبر” عندما سحب سبطانة المدفع في جبهة القتال وإلى جانبه ملك الأردن ونهض مزهواً ليقدم من العراقيين مليون شهيد عراقي وخمسمائة ألف معوق، لم يذوقوا بعد نكهة شهر العسل، وهم لايزالون يمدون أذرعهم بدون أكف عند تقاطع الطرقات طلبا للمعونة!
تلك هي لبنان أمامكم، ترك بحوزتهم الاستعمار الفرنسي قانون الرئاسة أن تكون للمسيحيين الموارنة وها هم منقسمون ومفلسون اقتصاديا وسياحيا وانطفأ وهج الأفق وراء الجبل “اللي بعيد” وهو في محاولة لاستعادة عافيته المستحيلة دونما جدوى، مثلما العراق!
ليكن رئيس بلادنا كرديا ولكن أن يكون عراقيا، وليكن مسيحيا ولكن أن يكون عراقيا وليكن مسلما شيعيا أو سنيا ولكن أن يكون عراقيا وليكن مندائياً ولكن أن يكون عراقيا وليكن تركمانيا أو أزديا ولكن أن يكون عراقيا.. وأن يحمل في ماضيه تاريخا عتيدا ونظيفاً، وحين يغادر الحياة ويفتحون دفتر حساباته المصرفية سيجدون في رصيده دينارا ومائتين وأربعين فلسا “فقط لا غير”… أن تنتخبوا رئيسا لا تمتد يده على المال العام، يحمل شهادة ليست مزورة، لا من أولئك الذين تخرجوا من كازينوهات القمار في أوربا… رئيسا للبلاد وللوطن العراقي ينتقيه الشعب بعد سجالات وحوارات على مديات من الزمن حتى حين أزور السفارة لتوقيع شهادة الحياة “البائسة والمخجلة” ألا أدير ظهري نحو صورة الرئيس البائس وغير المقنع. فمنذ أن جاءنا رعاة البقر والبعران في نهاية الستينات، ورعاة الحروب والذين استحوذوا على مقدرات الوطن الجميل بنفس السهولة التي يستحوذون فيها على مزارع البطيخ في قرية العوجة في وضح النهار، وأذلوا من هم أهلا للأذلال من الكرد والعرب ومن أشباه المثقفين، منذ تلك الأيام، ونحن نعيش مأساة الرؤساء وبعدها مأساة الاستحقاق، حين خولنا السيء الصيت “بول بريمر” القادم من ولايات اغتصاب وطن الهنود الحمر، بانتخاب الرئيس العراقي والرؤساء العراقيين يعينهم في تلك الوظيفة، بديلا عن صوت الشعب العراقي النظيف والصافي ليصبح الرئيس رمزاً يرفع الرأس عاليا يرفرف في سماء صورته علم عراقي تزينه الشمس البابلية والراية السومرية أو الراية العراقية الحديثة التي لم تلوثها أحبار القتلة ومجرمي التاريخ.. الاستحقاق بدعة نشرتها الصحافة في مقترح أو بعمود صحفي، وضحكنا على بعضنا وصار المستحقون يرشحون أوسخ الكرد واكثرهم نهبا للمال العام، دون أن نرى ماذا حل بالوطن اللبناني وحيث الرئاسة كتبت قانونا، ولكنها سميت باسم المسيحيين الموارنة فأخفقت في ماضيها وحاضرها المدلهم الذي بات مخيفا، فكيف بالرئاسة العراقية المستندة على وهم وخيال مريض اسمه “الاستحقاق” الذي لم يقره قانون ولا دستور في بلد سطر أول حرف مكتوب ومقروء وفي وطن كتب أول القوانين للبشرية بدءاً من القضاء والشهود وانتهاءً بحقوق الرقيق … مروراً بساقية الخمر!
سينمائي وكاتب عراقي
مقيم في هولندا