منذ فترة ليست بالقليلة و رأي الشارع العراقي بالحكومة وأحزابها في تحول من القبول شبه التام الى الرفض شبه التام, فبعد عقد ونصف من الحكم الذي يصفه اقطاب العملية السياسية بالديمقراطي مقارنة بما سبقه في حقبة حكم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين والذي يصفه خصومه بالدكتاتوري لما رافقه من تغييب واعتقالات واعدامات وحروب وقمع للحريات وتكميم للأفواه والتفرد بالسلطة, وبرغم كل ذلك فقد كان الشعب ينعم بحيز من الأمن والأمان والخدمات وكان للعراق هيبة -وإن كانت محدودة- لكنها ملموسة إذا ما قورنت بالفترة التي أعقبت الاحتلال الأمريكي للعراق واسقاط النظام السابق.
حتى العام 2003 كان معظم أفراد الشعب العراقي في الداخل والخارج ينتظرون بلهفة سقوط النظام الدكتاتوري بما فيهم بعض المقربين من الرئيس صدام حسين وخصوصا أبناء عمومته وأبناء أخواله الذين بطش بهم وأقصاهم من مناصبهم بسبب الصراعات العائلية على السلطة التي أطاحت برؤوس صهريه وأبناء عمه الأخوين حسين وصدام كامل وأخوتهما وكذلك الخلافات الحادة بين نجل الرئيس الأكبر عدي صدام حسين وأعمامه وطبان وبرزان وسبعاوي وابنائهم الذين كانوا يشكلون الجدار القوي لأسناد صدام من جهة والمهيمنين على معظم الفرص التجارية وحصد الأموال الطائلة من جهة أخرى إضافة للكثير من العشائر التي كانت موالية بشكل تام لصدام حسين ويشكل أبنائها الخط الأول لحمايته الشخصية والتي سرعان ما أصبحت من أشد أعدائه بعد ان أعدم صدام الكثير من رجالاتها وجمد الاخرين منهم وسلبهم امتيازاتهم و مناصبهم الرفيعة التي كانوا يتمتعون بها كعشائر الدليم والجبور والسامرائيين وبعض عشائر تكريت المقربة منه.
وما إن سقط نظام صدام حتى أيقن معظم الحالمين بنظام جديد يعيد لهم ما فقدوه في ظل النظام السابق أن أحلامهم كانت سرابا سرعان ما تبددت على رمال حارقة ولم يعد لها فرصة ولو بنسبة واحد من المليون من أن تتحقق! فقد استولت ثلة قليلة ممن جاءوا من الخارج على مقاليد الأمور وقربوا منهم مجموعة من الانتهازيين وصيادي الفرص والذين لبسوا اللباس الديني للتغطية على الأفعال والممارسات والسرقات التي لم يجد لها المؤرخون مثيلا عبر تاريخ العراق الممعن في القدم, فتغير حال العراقي من الاستقرار الذي كان يعيشه برغم سنوات الحصار العجاف الى التشرد بسبب رياح السموم الطائفية التي اجتاحت مدن العراق وتسببت بمقتل مئات الالاف وشردت الملايين وبرامج الاغتيالات المنهجية والمنظمة لقادة الجيش والطيارين والاساتذة الجامعيين والعلماء والأطباء وما تبعها من قرارات وقوانين تعسفية خسر بسببها شريحة كبيرة من أبناء الشعب العراقي وظائفهم وأعمالهم وحتى مساكنهم الحكومية كما حصل مع قيادات حزب البعث وقادة ومنتسبي الجيش والأجهزة الأمنية بمختلف أنواعها كنتيجة لقرار الحاكم الأمريكي بريمر بحل الجيش والأجهزة الأمنية وقانوني اجتثاث البعث ومصادرة أموال أتباع صدام وأقاربه حتى الدرجة الثانية, تلك القوانين التي وضعها معارضو صدام أنفسهم بعد أن كانوا يجرمونها ويصفونها بالفاشية والتعسفية أثناء فترة حكمه.
لم يرق بالطبع هذا الوضع للكثير من العراقيين المتضررين من هذه القوانين فتحول معظمهم الى معارضين بل لجأ الكثير منهم الى الانضمام الى حركات جهادية كمجاهدين ومقاتلين يقفون ضد الدولة لضرب مصالحها وتعطيل عملها و تدمير كل ماله علاقة بها وسرعان ما تحولت الحياة الطبيعية الى مناظر دموية وبألوان سوداوية قاتمة نتيجة للتفجيرات اليومية التي ضربت كل مدن العراق ناهيك عن القتل على الهوية للانتقام من كل من يعمل مع الحكومة أو له علاقة بطائفة معينة تدخل في تركيبة الحكومة رغم أن معظم من قتل بسبب التفجيرات أو الاغتيالات لم يكن أفضل حال من قاتليه وربما أسوأ بكثير خصوصا أولئك المنحدرون من مدن وقصبات الجنوب وأولئك القاطنون في مدن الثورة والشعلة والشعب شمال شرق العاصمة بغداد, ثم تبعها سقوط ثلثي العراق على يد عصابات داعش الاجرامية.
معظم التقارير الاستخباراتية تشير الى أن داعش هي عبارة عن تشكيل ديني عقائدي متشدد كان للبعثيين نصيب كبير فيه وكانت بعض قياداته بعثية بامتياز يقودها -كما تشير تلك التقارير- بعض قادة البعث الكبار الذين أفلتوا من الاعتقال الامريكي كنائب رئيس الجمهورية الأسبق عزة الدوري والقيادي البعثي المنشق عنه محمد يونس الأحمد وغيرهم وحتى إبراهيم عواد البدري السامرائي الملقب بأبي بكر البغدادي والمصنف الإرهابي الأول في العالم قد كان بعثيا ومن عائلة بعثية موالية لصدام حسين وأخ لشهيد في حرب العراق مع أيران إضافة لكونه وكما يدعي إسلاميا يعمل على تأسيس دولة الخلافة.
إن قصص الفساد وما رافقها من سوء إدارة الدولة وسيطرة الميليشيات على مقاليد السلطة وتردي الخدمات نتيجة لسرقة المال العام وحرب القضاء على داعش اجتمعت وطوقت العراق بشكل محكم وأتت على كل موارده حتى شلت اقتصاده وحولته من بلد غني وصلت وارداته النفطية السنوية الى ما فوق المئة مليار دولار الى بلد فقير لا يملك في خزائنه دولارا واحدا بل أصبح مثقلا بالديون المتراكمة نتيجة القروض وتضاعف فوائدها بسبب التعثر في تسديدها, كل ذلك جعل العراقيين يخرجون منتفضين ضد الأوضاع البائسة التي يعيشونها والموت البطيء الذي يحيط بهم من كل جانب نتيجة تفشي الامراض وعدم توفر الخدمات وانعدام تام لفرص العمل وارتفاع معدلات البطالة بشكل لا سابق له مما جعل الالاف من الخريجين يجلسون على قارعة الطريق بحثا عن فرصة عمل لا علاقة لها حتى بتخصصاتهم وشهاداتهم الجامعية ناهيك عن تفشي المخدرات والجرائم الأخلاقية والجنائية وانهيار شبه تام للمنظومة الأخلاقية.
لم يأت ذلك اعتباطا أو بصورة عشوائية وإنما جاء بشكل ممنهج ومنظم ومعد له سلفا لتدمير بلد بالكامل على يد حفنة من الطارئين على السياسة، مجموعة من أعضاء مؤتمرات الفنادق الفارهة الذين لم يمارس معظمهم العمل السياسي ولو لساعة واحدة ومن كان يدعي أنه معارضا وخرج علينا بقصص البطولة في المهاجر فلم يكن سوى حملدار أو قاريء منابر أو بائع متجول في أسواق دول الجوار ممن رأت فيهم أمريكا ضالتها لتنفيذ مخططاتها والاستيلاء على موارد البلد الاقتصادية وثرواته الطبيعية المتعددة من جهة وحماية حلفائها في المنطقة من جهة أخرى بعدما كانت مهددة من قبل مجموعة حمقى وقعت بأيديهم أزرار السلاح الفتاك.
اليوم وبعد عقد ونصف من الاحتلال يقف العراقيون مطالبين بعودة البعث والنظام الدكتاتوري الذي طالما حلموا بالقضاء عليه, الغريب أن الدعوات لم تأت من مدن المنطقة الغربية الموالية لصدام والمعادي للحكم الشيعي (الصفوي) كما يسمونه في إشارة صريحة الى أيران وإنما جاءت تلك الدعوات من مدن الجنوب الشيعية التي كانت الأكثر تضررا من حكم الدكتاتور حتى وصل الحال في كل مناسبة احتجاجية وغير احتجاجية وأمام كاميرات الفضائيات الى التمجيد الصريح بحكم البعث وتمني عودة صدام للحكم بل إن هذه التصريحات باتت مسموعة يوميا بشكل واضح في كل شارع وبيت ومحلة ودائرة رسمية دون خوف أو وجل من بطش الأحزاب الحاكمة وميليشياتها وهذا دليل واضح على أن الشعب قد طفح به الكيل وأن أسوأ حكم مر على العراق هو الذي أعقب احتلال العراق في العام 2003 وليس ذلك الذي أقامه البعثيون في تموز من العام 1968 واستمر لثلاثة عقود ونصف.
إن ذلك في نظري ينذر بخطر وشيك ومحدق بأن الساحة أصبحت متهيئة لعودة حزب البعث للحكم سواء باسمه المعلن أو باسم مستعار يستخدمه قادته للتغطية عن الاسم المستهلك الذي قد يوقظ ذاكرة العراقيين الرافضة له وفي الوقت نفسه وعلى مدى الأعوام السابقة وانشغال الدولة بمحاربة الإرهاب الذي كان للبعثيين دور كبير في إدارته بشكل منظم نابع من خبرة طويلة تسلق معظم البعثيين القدماء سدة الحكم وحصلوا على مناصب حكومية رفيعة المستوى كنواب في البرلمان ورؤساء كتل وتيارات وضباط كبار ومدراء عامين وسفراء ودبلوماسيين وبإسناد مادي ومعنوي خارجي وداخلي في ان واحد ودعم عشائري وشعبي تجسد في التصريحات انفة الذكر وهي وثيقة اعتراف صريحة بشرعية ومباركة عودة حزب البعث للسلطة وتذكرة مجانية في مقاعد الدرجة الأولى لتسهيل عودة البعثيين وتسلمهم السلطة دون خسائر تذكر.