صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

وهم الاعتزاز بالذات: أساطيرنا الشخصية

يندر العثور على شخص خالٍ من الأساطير الشخصية إلّا باستثناءات محدودة. ولا ينحصر هذا الأمر في الجماعات القومية والدينية وما تلفّه من أساطير حول جماعاتها، بل يتعداه إلى الفرد؛ فهو النواة في بث هذا الإشعاع الأسطوري! وليس الجماعة. والفارق بين الاثنين فارق كميّ؛ فالهوية الجماعية لا تختلف عموماً عن الهوية الفردية، فكلاهما يغرفان من المخيال الفردي، إلّا أن هذا الأخير يتبرعم وينمو ليتحول إلى هوية جماعية كبرى لاحقاً.

عن طريق التبادل والتضامن المستمر بين الذوات وسعيها الحثيث لحفظ وجودها، لابد أن تتقدم الأسطورة خطوة إلى الأمام لتغدو هوية جماعية كبرى يكون فيها الفرد متخوماً بأساطيره الشخصية ليدفع بها نحو أسطورة جماعية أوسع. فعلى أي حال، مهما كانت الهوية الجماعية مقدسة بأساطيرها التي تلفّها على نفسها(من قبيل العرق النقي، والقومية النقية، والديانة الأفضل..الخ)، تبقى الأسطورة الشخصية هي الخارطة الكبرى والمُؤسِسَة لشخصية الفرد ونظرته الموهومة حول ذاته.

 فلدينا ميل عميق، ولعله متأصل، بالجنوح لتضخيم ذواتنا بأساطير شخصية لا وجود لها في الواقع. بمعنى، أن الواقع يكذبها فهي محض إدعاءات في نهايات المطاف. نعتقد كثيراً بأننا لا نحظى باهتمامٍ كافٍ من قبل الآخرين، لماذا؟ لأن اعتزازنا بذاتنا يدفعنا لذلك؛ فعلى الآخرين أن يبكوا لبكائنا، ويفرحوا لفرحنا، حتى إننا في كثير من الأحيان نستغرب لماذا لايشعر بنا الآخرون، حتى لو كنّا لا نهتم بهم، لكننا نبقى نطالبهم أن يهتموا بنا!.

يمضي أغلبنا رحلة العمر ولا زال يكابر على أساطيره التي لا دليل على وجودها، ويستبسل لإثباتها من الناحية الشخصية

لكنّها ليست موجودة في النهاية!. (والكثير منّا – مثلاً-  لم يثبت ما إذا كان وسيماً بالقدر الذي يرويه عن نفسه أم لا!). بعبارة أكثر دقة، لكلٍ منّا سرديته الخاصة، ويسقط عليها ما يشاء من زيف وأخيلة تموج في ذهنه لتضخم أناه وتبعده عن فهم نفسه والانتباه لها. إن الاعتقاد الزائف بالذات والاعتزاز بها يحيلنا إلى سلسلة طويلة من المعاناة، ويبدو أن ثمّة علاقة طردية بين الأساطير الشخصية والمعاناة؛ فكلما زاد منسوب الأساطير التي تثقل الشخص، زادت معها المعاناة.

نحن لا نسقط على ذواتنا إلّا ما نرغبه، لا ما هو موجود  على نحو مباشر، نرغب كثيراً أن نفسر أنماطنا الذهنية والنفسية طبقاً لآليات غير مباشرة وبعيدة عن ملامسة الواقع. نسعى بشكل حثيث للابتعاد عن ملامسة جوهر الموضوع عبر تضخيم السرديات التي نروي من خلالها ذواتنا للآخرين، وهذا النزوع له ما يبرره، ذلك إن شعورنا بالوجود يدفعنا إلى هذه التكلفة الباهظة في السرد المتخيل حول ذواتنا، كما لو أن وجودنا يغدو مهدداً برمته إن لم يكن متضخماً بشكلٍ أسطوري تألفه النفس!. إنه جهل بالواقع المباشر الخالي من كل أشكال الزيف، وهذا الواقع يصعب النظر إليه كما هو طالما نميل إلى أسطرة ذواتنا.

سأل التلاميذ معلم الزن: كيف وصلت إلى ما أنت عليه الآن؟؟ أجابهم: حينما أشعر بالجوع أتناول الطعام، وحينما أشعر بالنعاس أذهب للفراش!.. إنها توصيفة مرنة لواقع الأمور لا تزدحم فيها مرويات ضخمة عن الذات، ولا نتلمّس فيها اعتزاز خارق يجعل منها سردية مبالغة في تصورها عن نفسها  ومختلفة عن الآخرين، فإن كانت مختلفة في شيء، فاختلافها في أنها ذات طبيعية لا تجنح إلى الأسطورة في فهم واقعها، وإنما تجنح للسلام والتصالح والرفق بالذات والتعامل معها بروية، لا أن نتعامل معها بطريقة كفاحية مٌعَذبَة.

أقرأ أيضا