مر عام بالتمام والكمال على أكبر انتفاضة جماهيرية عرفها التاريخ العراقي الحديث وعلى أبشع جريمة اقترفتها حكومة منتخبة بحق أبنائها, انتفاضة تختلف في كل مضامينها وأحداثها وما رافقها من صور بطولية عن كل الانتفاضات والثورات التي خلدها التأريخ العراقي الحديث كثورة العشرين المجيدة التي ساهمت في طرد المحتل البريطاني عام 1920 وانتفاضة آذار الخالدة التي هزت عرش الطاغية عام 1991 والتي جيرها الانتهازيون والملونون لصالحهم.
ولو وضعنا انتفاضة تشرين في خانة المقارنة مع سابقاتها لوجدنا أنها تختلف عن الأخريات بأنها كانت انتفاضة عفوية بكل ما تحمل الكلمة من معنى, فلم يكن خلفها أي تنظيم ولم تسبقها أية خطة للتنفيذ ولم يحدد لانطلاقتها ساعة الصفر ولم تتجرأ أي جهة سياسية في أن تنسبها لنفسها إنما كانت انطلاقتها شعبية وجماهيرية كنتيجة للمظالم غير المعدودة التي أثقلت كواهل أعزاء القوم الذين أذلهم شرارهم.
تلك المظالم لم يكن سببها طاغية أو دكتاتور أو عصابة منظمة أو مافيا استولت على مقاليد الحكم عنوة إنما ممن أختارهم الشعب بممارسة ديمقراطية وبملأ إرادته ووضع ثقته فيهم فحنثوا في اليمين الذي قطعوه على أنفسهم وخانوا تلك الثقة وسلبوا حقوقه بالكامل وحرموه من أبسطها كإنسان, فدمروا حاضره وسرقوا مستقبله واغتالوا حلمه قبل سرقة أمواله تحت غطاء ديني مزيف سرعان ما أماطته الأيام وكشفت زيف الادعاءات والوعود التي قطعها من جاءت بهم الصدفة الغبراء.
ما يميز انتفاضة تشرين عن غيرها من الانتفاضات والثورات هو سلميتها ووطنيتها وبياض صفحتها التي حاول البعض من راكبي الموجة أن يلوثها, فلم يحمل المنتفضون سلاحا ولم يقتلوا عنصرا أمنيا ولم يسرقوا أو يحطموا ملكا خاصا أو عاما ولم يعتدوا على جهة أخرى ولم يرفعوا شعارات حزبية أو طائفية ولم يمجدوا شخصية سياسية ولم يعلقوا صورا لرموز دينية إنما رفعوا العراق بكل أديانه وطوائفه ومكوناته فوق رؤوسهم وخرجوا يدا بيد حاملين أرواحهم فوق راحتهم متحدين أجهزة الظلم الخبيثة بكل شجاعة وصمود مواجهين الرصاص الغادر وقنابل الدخان القاتلة والأساليب الوحشية التي استخدمتها حكومة قمعية تدعي إنها ديمقراطية إلا أنها أثبتت بالدليل القاطع إنها مافيا للقتل والتغييب والتعذيب المنظم, فتحدوا قمعها وشراستها بصدور عارية لا تغطيها أثواب إنما يملؤها إيمان لا حدود له بقضية عادلة وشجاعة متناهية لم تترك حتى حيزا صغيرا للخوف.
من أهم النتائج التي حققتها انتفاضة تشرين خلافا لسابقاتها إنها حطمت جدران الخوف والرعب الشاهقة التي أرست أسسها ورفعتها جهات وشخصيات متهمة بالفساد بكل إشكاله كانت تختفي خلف عباءات دينية وعقائدية بمختلف طوائفها وألوانها نجحت في بث الرعب والخوف في قلوب الملايين بالسلاح المنفلت الذي زودتها به دول كبرى إقليمية وغير إقليمية معروفة للجميع وبذلك استحقت تلك الشخصيات العقوبة الملائمة التي يجب أن تتخذ بحقها وبحق كل من ساعدها وآزرها في قتل المئات وجرح الآلاف وترك الغصة في قلوب ذويهم ومحبيهم وحرمان أولادهم وبناتهم من حنوهم وترك عوائلهم دون معيل أو راعي, والمصيبة أن تلك الشخصيات التي تلطخت أياديها بدماء الأبرياء جاءت بهم صناديق الاقتراع بعد أن أختارهم الشعب بنفسه, فبدلا من رد الجميل لذلك الشعب استخدمت معه أبشع أساليب القتل والتغييب ليس فقط أثناء انتفاضة تشرين أنما طيلة السنوات السبع عشرة المنصرمة.
إن من أمر بقتل أبطال انتفاضة تشرين لم يكن ناسكا أو قديسا أو إنسانا وطنيا حريصا على سعادة وسلامة أبناء شعبه إنما كان مجرما شريرا موغلا في الإجرام ومتعطشا للدماء دنست قدماه تراب العراق الشريف منذ أن وصل فوق دبابة المحتل, وما جريمة مصرف الزوية البشعة إلا شاهد ومثال حي على إجرامه وإجرام زمرته من العسكر والمدنيين ولا أستثني أحدا منهم, فهم ليسوا أقل إجراما منه, فكلهم كانوا أدوات للقتل المباشر وغير المباشر فحين يكون العسكريون من وزراء الدفاع والداخلية والأمن الوطني ومن يساندهم (الطرف الثالث!!) متورطا في قتل المتظاهرين بالرصاص الحي وقنابل الدخان القاتلة كان أعضاء الحكومة من المدنيين يقتلون الناس بفسادهم وسوء إدارتهم لوزاراتهم وتماديهم في السكوت عن الفساد وإبرام الصفقات المشبوهة التي أفرغت البلد من خيراته واثبت الواقع أن لا شريف فيهم !!؟؟
فمن كان له ذرة شرف ونقطة غيرة على بلده وأدنى درجات الحرص على كرامة أبناء شعبه وكانت لديه قيمة لدماء ذلك الشعب الذي عانى ما عانى من جراء تلك السياسة البائسة كان الأجدر به أن لا يشارك في تلك الحكومة الفاشية, أو على أقل تقدير كان عليه أن يستقيل منها مع سقوط أول شهيد برصاصها كي يريح ضميره مما حدث وينأى بنفسه من ذلك المستنقع الآسن, لكن القذر لا يستطيع أن يفارق القذارة و(القذارة على أشكالها تقع !!!) ولفساد الحكومة وطمعها في سرقة أكبر ما يمكن سرقته تمسكت بالكرسي البالي وسكتت وغضت البصر عما جرى لشهرين كاملين حتى أسقطتها انتفاضة تشرين الخالدة بقوة وبطولة وعزيمة ودماء أبطالها ومع كل ذلك فلم يردع تلك الحكومة رادع أخلاقي أو إنساني أو قانوني ولم تلجم نفسها الدنيئة الأمارة بالسوء عن الخطايا التي ارتكبتها بحق أبناء شعبها بل استمرت في غيها وعنجهيتها تحت مسمى حكومة تصريف الأعمال كي تخرج بأقصى قدر ممكن من المغانم والسرقات المنظمة على حساب دماء الآلاف وشقاء وتعاسة الملايين مسترخصة دماء شهداء انتفاضة تشرين الخالدة التي ستلاحقها حتى قيام الساعة ولم تكتف بذلك بل اختتمت تلك التراجيديا بمشهد هزيل رمت فيه داؤها الذي وضعته في (حقائب السامسونايت) على الحكومة اللاحقة فانطبق عليها المثل الشهير (رمتني بدائها وأنسلت) سلوكا ومعنى, ولو كانت لدى تلك الحكومة ذرة من الغيرة لكان خيرا لها أن تحفر حفرة وتدفن نفسها وعارها فيها قبل أن تضع نفسها في ذلك الموقف الوضيع.
لقد تحول الحساب اليوم إلى ثأر في رقبة الحكومة الحالية وعليها أن تحاسب وتقاضي كل اؤلئك الخونة الذين تلطخت أياديهم بدماء أبناء العراق دون استثناء بدأ من أعلى الهرم وانتهاء بكل من أطلق رصاصة نحو صدر متظاهر سلمي أو رمى قنبلة دخان هشمت رأس أخر أو حتى من أسمع أبطال تشرين كلمات نابية مست أعراضهم وشرفهم الغاليين, وعلى الحكومة إن كانت حريصة على أن لا تكون في خانة المدانين كسابقتها أن تعتقل رؤوس الأفاعي الصفراء وذيولها وأن تحيلهم جميعا دون استثناء للقضاء العادل وتحاكمهم محاكمة علنية ثأرا لكل كل قطرة دم سقطت بسببهم سواء أكانوا سببا مباشرا أو غير مباشر في إراقتها وأن لا تأخذها بهم رأفة فالثأر سيبقى أبد الدهر مثلما بقي ثأر الحسين ويوم عاشوراء قائما معنا ليومنا هذا وما قتلة اليوم إلا نتاجا لنطف قذرة حملها الأوغاد جيلا بعد جيل ليعيدوا مأساة الطفوف من حين إلى آخر؟