تتحدث الوثائق التي حفظتها ذاكرة التاريخ بأن بلاد الرافدين قد توالى على حكمها حتى يومنا هذا سبعمائة وأربع حكام, منهم الحاكم المطلق الذي أدعى الإلوهية و منهم الملك الأوحد الذي أدعى استلام الحكم من السماء و منهم خلائف الرسل والأنبياء ومنهم سلاطين خلفوا الخلفاء و منهم من نصبه الانكليز بعد أن كان يعيش في الصحراء ومنهم عسكريون انتزعوا السلطة وأسقطوا كل الغرماء ومنهم مدنيون انقلبوا على العسكر و التصقوا بكراسيهم كما يلتصق الخشب بالغراء ومنهم من جاء لاهثا خلف الجاه والسلطة كما يلهث العطشان على قطرة الماء.
لم يبق اليوم على قيد الحياة من هؤلاء الذين حكموا العراق على مر العصور سوى ثلة صغيرة مصيرها المحتوم هو الموت يوما ما, أجلا أم عاجلا, فالموت حق و أرواح البشر بيد خالقها, ولا أبالغ لو قلت إن تسع و تسعين بالمئة من هؤلاء الحكام كان همه الوحيد هو ديمومة حكمه و بقائه في كرسي الحكم أبد الدهر ومهما كلف الثمن و لو بقيت إماراتهم على حجارة! لاتهمهم مصالح العباد و المحكومين بقدر ما يهمهم الالتصاق بكرسي الحلاق, ألتف حول هؤلاء الحكام حواشي من وزراء و حجاب وقادة و كهنة و رجال دين و شعراء ومغنين و متملقين و منافقين و غيرهم و كانوا يمجدون سلوك الحاكم و يحللون ما يحب ويحرمون ما لا يحب و يفتون بما يتناسب مع رغباته و يعظمون أقواله و يقدسون أفعاله و يألهون شخصه من أجل المنفعة و المصلحة الشخصية المحضة لا من أجل النصح والتوجيه الذي يصب في مصلحة البلد والشعب, يقتل بعضهم البعض تقربا للحاكم و طمعا بالجاه و المال.
لو تمعن الناس بالتاريخ و في تلك الشواهد و المواقف التي نقلها لنا لوجدوا أن سبعمئة حاكم ممن حكم هذا البلد على مر التاريخ و ربما أكثر من ذلك العدد و مئات الآلاف من حواشيهم و قادتهم و حراسهم و حماتهم و وعاظهم و كهنتهم و متملقيهم ومنافقيهم و غيرهم من ملايين البشر الذين عاشوا في أزمنتهم قد ماتوا جميعا و صاروا خبرا لكان و ذهبت معهم ريحهم و خارت قوتهم و انهارت ممالكهم و انتهت عهودهم و تحطمت قصورهم و ضاعت أموالهم و بادت جيوشهم و صارت عظامهم رميما لكن العراق باق لم يمت و أرضه باقية بعطائها و خيرها ونخيله ما زالت شامخة باسقة و أنهاره مازالت عذبة نقية و إن الزبد يذهب جفاء و يبقى ما ينفع الناس في هذه الأرض الطيبة المعطاء.
لقد لاحظنا كيف دخل نواب العراق الجدد إلى قبة البرلمان, ولاحظنا المبالغة في الرمزية التي لم يكن لها أي معنى و لم تترك في نفوس من شاهدها سوى السخرية و الأحباط من هزلية المشهد!! و كل فئة منهم هتفت لحزبها و رموزها و قوميتها حتى ضجت القاعة بمزيج من الهتافات والأهازيج والزغاريد و الصراخ والفوضى و كأنه سوق الهرج و ليس رمز الدولة و مصدر عدالتها و منبع تشريعاتها, يعكس سلوكهم وتصرفهم هذا عمق الانقسام الطائفي و القومي والديني والاجتماعي و تعكس أفعالهم تلك الروح اللاوطنية والنفس الطائفي و الكراهية الدفينة التي سادت في العراق ما بعد 2003 فهم يعكسون حالة و وضع ملايين العراقيين بمختلف ألوانهم, حتى تحول المشهد إلى ما يشبه صراع الديكة في مقاهي أيام زمان!! هذا يهتف لحزبه وذلك يهتف لتياره و الآخر لقوميته وهذا يدفع ذاك و ذاك يصرخ بوجه هذا يتقافزون بين الكراسي و على المنصة, الكل يود لو سنحت له الفرصة أن يمزق غريمه في منظر يثير الغثيان و يدعو للتقيؤ.
المحزن في المشهد إن العراق الذي اجتمعوا لأجله لم يكن له وجود داخل القاعة بل لم يكن له وجود حتى في ضمائرهم و وجدانهم بقدر ما كان للرمزيات, فلا أسمه قد ذكر كما يجب و لا سلامه الوطني قد عزف كما ينبغي و لا رايته قد احترمت كما هو متعارف عليه و لا جيشه قد ذكر كما هو حقه و لا شعبه الصابر المغلوب على أمره قد رد له جزءا من جميله و لو بكلمة افتتاحية تخفف عنه وطأة ما يعانيه وما جناه من تلك الوجوه التي لم تتغير طيلة عقدين من الزمن لم يحصد بسببها سوى الموت و الجهل و التخلف و الفقر و العوز و سوء الخدمات و التهجير حتى صار الشتات العراقي يملأ خارطة العالم.
كان من المفروض على أؤلئك الذين دخلوا البرلمان أن يركعوا لله طالبين المغفرة على ما فعلوا بشعبهم مما جنت أيديهم و كان عليهم أن يهتفوا باسم العراق لا باسم الرموز و القوميات و التيارات والكتل و الأحزاب وكان عليهم أن يبدأوا جلستهم الأولى تلك بتقديم الاعتذار لشعبهم و لبلدهم على كل ما فعلوا طيلة العقدين الماضيين وكان عليهم أن يرفعوا راية العراق ويحملوها على أكتافهم ويضعوا أسم جيشهم على صدورهم و كان عليهم أن يقدموا برامجهم التي تصب في خدمة شعبهم وبلدهم ويقسموا بكل المقدسات على تنفيذها و يثبتوا جديتهم في ذلك و إلا فلا شرف و لا دين لمن يقسم بالشرف والدين و لا ينفذ ما يقول و ما يعد به.
رغم ما فعلوا سوف يبقى العراق قبلة العالم وسوف يبقى حيا خالدا أبد الدهر وسوف تبقى أرضه ارض الخير و سوف يبقى ماءه عذب فرات و سوف تبقى تربته طاهرة زكية تحتضن خير خلق الله من أنبياء وأئمة وأولياء و صالحين و سوف تبقى الحياة تدب فيه و لن يموت طالما إن الله فضله منذ أن خلق هذه الأرض وسماواتها السبع بأن يكون أول مواطن الحضارات و أشرف عتبات المزارات و أعرق مهابط الديانات و ساحة لأعظم البطولات و سوف يبقى ترابه زكيا معطرا و إن غطته النفايات.