الفضائع التي إبتدأت في 8 شباط 1963 والايام التي تلته، لم تكن أسوأ ما نتج عن هذا اليوم الدموي المأساوي، الأسوأ هو إن هذا اليوم قد فتح الباب مشرعا أمام العصبية السياسية والعرقية والطائفية في أن تكون البديل عن منهج بناء الدولة، والتي كانت –ولازالت- مخزن الكراهية الذي يعول عليه أكثر من اي شيء آخر لبناء إقطاعيات العصبيات القومية والمذهبية وتجنيد المدافعين عنها بعد شحنهم بجرعات الكراهية للآخر المختلف سياسيا، قوميا، طائفيا، دينيا، لتبرير قمع الآخر، فمنطق بناء الدولة يتعارض تماما مع بناء السلطة أو الإقطاعيات الحزبية أو العائلية التي تعيش أفضل لحظاتها في ايامنا هذه.
كان عبد الكريم قاسم يمثل منهج بناء الدولة، فيما لم يكن لدى أعداءه غير منهج بناء السلطة الذي لا يحتاج غيرإيجاد بعض الحمقى ممن تسهل مهمة شحنهم بجرعات العصبية ضد الآخر وبما يجعلهم يؤمنون بأن ما يفعلونه هو من أجل وبدافع الدفاع عن الدين او المذهب أو القومية أو الحزب الذي يمتلك وحده حق التفكير والعمل بالنيابة عن الآخرين “المتآمرين” الذين لا يريدون له النجاح في بناء الدولة وتحقيق تطلعات الشعب في الحياة الحرة الكريمة التي إحتكرت لأتباعه منذ الايام الأولى لإستلامه السلطة.
العراق منطقة نفوذ أمريكي منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية، وما فعله عبد الكريم قاسم هو إخراج العراق من دائرة النفوذ الغربي بصورة عامة وإتجه توجها وطنيا خالصا، فلم يكن ولاءه لغير العراق رغم محاولات سحبه من قبل السوفيت لمحورهم، أو من قبل عبد الناصرالذي كان يهدف الى ضم العراق الى الجمهورية العربية المتحدة التي كانت تضم مصر وسوريا، وهذا السلوك أغاظ الجميع، فلم يكن أمام أعداءه غير الإطاحة به وإيجاد بعض شذاذ الآفاق لتنفيذ ذلك، فجمعت الولايات المتحدة وبمساعدة مصر عبد الناصربعض هؤلاء لتمد لهم يد المساعدة للتخلص من نظام الزعيم مثل صدام حسين والغريري وأمثالهم،فكان أن أوكلت لهم مهمة إغتيال الزعيم في 29 تشرين اول عام 1959، والتي لو نجحت لتسلم السلطة من يليه في تسلسل القيادة حينها عبد السلام عارف –تلميذ عبد الناصر وذيله الذليل- الذي تآمر عليه مع البعثيين لاحقا في شباط الأسود عام 1963، وبدعم وتخطيط أمريكي واضح، وبمساعدة عبد الناصر حيث كان الإنقلابيون يحملون بنادق بورسعيد المصرية الصنع، وكان من بينهم زعماء سياسيين على رأس أحزاب سياسية مساهمة في النظام السياسي الحالي، الذي جمع كل طلاب السلطة السابقين واللاحقين ووزع السلطة بينهم “حصصا” وغاب مشروع بناء الدولة. وما حدث في ذلك اليوم هو القضاء على فرصة بناء الدولة، لتحل محلها فرصة إقتناص السلطة، تراجعت فرصة تبلورمفهوم المواطنة لتحل محلها بيئة نمو العصبيات الحزبية التي تجسدت في ابشع صورها في الايام التي تلت 8 شباط 1963 والتي طالت أغلب البيوتات الوطنية المخلصة للعراق، والعصبيات القومية التي دفع الأكراد الثمن الأكبر فيها خلال حكم البعث، والعصبيات المذهبية التي أسفرت عن وجهها القبيح في أحداث إنتفاضة 1991، ثم في النظام الجديد الذي يفترض إن يكون نظاما ديمقراطيا يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن إنتماءاتهم القومية أو الدينية او المذهبية.