(( ١ ))
محنة هذا المقال الكبيرة انه سَيَعْلقُ بين جينتين: جينة العربي الحساس تاريخياً حد الموت من اقتطاع الارض او التعدي عليها؛ وجينة الكردي العنيد الغاضب عمره على التاريخ والجغرافيا، لذلك ستنأى افكاري هنا عن حلم الرضا الذي يبدو انه بعيد المنال من العرب والأكراد على حد سواء. فليس مهمة هذا المقال ان يقنع المتطرفين من الجانبين، لكن مهمته الحقيقية ان يقنع العقلاء والمعتدلين من الجانبين ايضاً.
(( ٢ ))
منذ زمن ليس ببعيد، ترسخت لدي قناعة، ان المشلكة لا في بقاء اقليم كردستان ضمن العراق، ولا في انفصاله عنه، انما المشكلة الحقيقية هي التي يبقى معها هذا الأقليم وهذه الامة الغاضبة؛ لاهي للعراق، ولاهي لنفسها! ونبقى ندور مع ترنيمة محمود درويش عنهم: (ليس للكردي إلا الريح) لنبقى في مهب الريح!
(( ٣ ))
كل ما مر بالعراق من هزات وازمات منذ العام ١٩٢٣ كانت سياسية عابرة تتعلق بهوية الدولة والصراع على السلطة وتخبط السياسة والاحزاب والعسكر، ولم يكن لها مساس بالجغرافيا ولم تَعْلَق كثيراً بالتاريخ. وحدها القضية الكردية هي قضية العراق التي كانت تستحق الحرب، والسلام، والتفاوض، لا غير. سألني صديق الماني في ديسمبر ٢٠٠٢ ماهي مشكلة العراق الحقيقة بعد سقوط صدام؟ قلت له مستقبل كردستان.
لذلك حين نص قانون ادارة الدولة على ان الدستور يعتبر مرفوضاً اذا لم يوافق عليه ثلثا عدد المصوتين في ثلاث محافظات قال لي صاحبي الكردي:
هل تشعر اننا نلوي يد العراق حد الألم؟ قلت له : نعم لكن ما يخفف عني ذلك الألم هو اننا سنشترط عليكم ذلك او أشد منه عند التصويت او الاستفتاء في المناطق المختلطة ومنها كركوك .
ولا زلت حتى اليوم – انا الذي لم اصوت على الدستور وأشد الغاضبين عليه – حين اتحدث مع السياسين العرب شيعة وسنة اقول : الزموهم بما ألزموا به انفسهم ، الكردي الذي يضيق بحكم الأكثرية في العراق ، يجب ان يقابله العربي والتركماني الذي يرفض حكم الأكثرية له ، في المناطق المختلطة ، والعدل أساس الحكم .
سمعت قبل ايام الكردي الوحيد الذي لا يشبه في هدوئه الاكراد هوشيار زيباري يقول (الاستفتاء في ٢٠ أيلول ٢٠١٧ سيكون داخل حدود المحافظات الثلاث لكن اذا طلبت المجالس المحلية للمحافظات والأقضية والنواحي خارج حدود الأقليم الاستفتاء فهذا من حقها)! ومن حقك ايضاً كاك هوشيار؛ لكن على ان يعد هذا الاستفتاء مرفوضاً اذا لم يوافق عليه ١٧٪ او اكثر من سكان المناطق المختلطة خارج الأقليم.
(( ٤ ))
هل كان حقاً دستور الشيعة؟ هذا الذي فرضه السيستاني الكبير على الشيطان الاكبر؟ فرفضته ثلاثة محافظات سنية هي (الموصل والانبار وصلاح الدين)، وقبلته على وجل ، ثلاث محافظات كردية هي (السليمانية واربيل ودهوك) في عام ٢٠٠٥ ! ثم تمرد الاثنان على بغداد !!فذهبت المحافظات السنية الثلاثة الى داعش في ٢٠١٤ وذهب الاكراد الى الاستفتاء على الاستقلال في ٢٠١٧ وبقي خطاب بغداد المتخشب ينادي بالالتزام بالدستور كما ينادي البائع المحبط على بضاعة كاسدة !! وبقيت دماء الشيعة تشخب وهي تخلص السنة من داعش ، وتريد ان تخلص الاكراد من حلمهم الكبير! ربما!
لقد استعجل هذا الدستور وأخطأ .
اخطأ حين تصور ان مشكلة الامة الكردية الكبيرة تكمن في الشعور بالظلم ، وتنتهي برفع هذا الظلم عن طريق المساوات والمواطنة في دولة واحدة ، ولم يدرك حجم الرغبة العميقة في الامتلاء القومي ، والشعور الحيوي بالهوية ، والرغبة في تجسد الحلم القومي ، واحتضان الارض والاحتفاء باللغة ، وتذوق العلاقات الدولية تحت راية الشمس الصفراء . ظلامات الاكراد مركبة وقديمة وعميقة ، وهي سبب تزمتهم القومي ، ونزعتهم التعسفية في انتزاع الحقوق ، ذلك انهم يشتركون مع اليهود في الوصف الذي ذكره ويل ديورانت في قصة الحضارة : أمة تخشى ان ينقلب عليها التاريخ كل يوم .
بغداد واربيل اليوم لا تتكلمان لا بلغة واحدة ، ولا منطق واحد ، بغداد تتحدث عن الدستور وتتأسف على ما أعطت فيه للأكراد ، واربيل غير مقتنعه به ، وتقول ان بغداد لم تلتزم وان مسار الدولة انحرف ! وبغداد تتكلم عن إنصافها للثقافة واللغة الكردية ، وعن عدالتها في توزيع الثروة ، وعن صبرها على تمنع الأقليم عليها ، وهي لا تدرك ان علة هذه الامة في عضو اخر من جسدها ، هو ألم الهوية والجغرافيا الممزقة والحلم الكبير والشعور القومي المنقوص والذي يعاني من عدم الارتواء ، وفيه عطش سلالات باكملها للدولة المستقلة .
لن يرضى عنك الكرد وان أرضيتهم ، أعطهم دولتهم ولَك عليهم حسن الجوار .
لقد آن لنا كعراقيين ولجميع دول الجوار التي تحيط بالاكراد ، تفهم ان قضية هذه الامة لا تتعلق بالحقوق في حدود المواطنة ، وإنما هي قضية شعور عميق ومركب بالظلم القديم .
(( ٥ ))
ظلمهم التاريخ حين طاف بعروقهم من الهند الى اورپا الشرقية !
وظلمتهم سايكس – بيكو حين قطعتهم ووزعتهم على اربعة دول !
وظلمهم محمود درويش حين أسلمهم للريح !
وظلمهم بعض فقهاء الشيعة حين اخذوا ما رواه الكليني في الكافي عن ابى الربيع الشامي قال: سألت ابا عبد الله عليه السلام فقلت: ان عندنا قوما من الاكراد، وانهم لا يزالون يجيئون بالبيع، فنخالطهم ونبايعهم؟ قال : يا ابا الربيع لا تخالطوهم ، فان الاكراد حي من أحياء الجن ، كشف الله تعالى عنهم الغطاء فلا تخالطوهم [الكافي5/158]
لكن فقيهاً شيعياً هو السيد الراحل محمد الشيرازي ( التقيته في قم عام ١٩٩٤ ) انصفهم ودافع عنهم حتى ظننت انه منهم وهو يقول:
(وبرأيي أن الأكراد ـ في هذه الرواية ـ هو جمـع (كَرَدَ) وهـو مشتق من كَرَدَ إلى الجَبَل أي ذهب إلى الجبل (جاء في المنجد: كَرَدَ ـ كرداًالعدو ـ طرده كارد مطاردةً: طارده ودافعه. المنجد في اللغة: ص 680). من هنا، فان المقصود من الأكراد فـي الرواية ليس الطائفة الكردية بل المقصـود كل الناس الذين يقطنون المناطق الجبلية ونحوهم المنقطعون عن الأحكام الشرعية والحضارة المدنية ككلمة (الأعراب): الدالة علـى كل مبتعد عن الحضارة الدينية، فالأكراد في الرواية كل من سكن الجبل سواء كان كردياً أو غيره فقد يكونون مـن أهـل فارس أو أهل إندونيسيا أو أهل أفغانستان، فلا يشمل الحديث العنصر الكردي المعروف. والمراد (بالجن) هنا المستتر بالجبـل، فـإن (الجن) مشتق من مادة الجنين والجنة، وهو لا يعني انهم من الجن في قِبال الإنس (ولو كان المـراد إنّهم حقيقة من أصل الجن لزم أن لا يكون تكليفهم كتكليف الإنس لوضوح الفرق بين التكليفين مع بداهة أن الأكراد مكلّفون كسائر أفراد البشر). فهؤلاء الناس القاطنين بالجبال والمنقطعين عن المجتمع والحضارة عندما يأتون إلـى المدن يكره التعامل معهم وتزويجهم، باعتبـار مكوثهم فـي الجبال وغلبة الجهل والأمية عليهم وابتعادهم عن المدينة والمعاشرة الطبيعية يقول لكم: اتفاقاً إني ذكرت تفصيل ذلك في كتاب النكاح من موسوعة الفقه والذي صدر قبل سنوات (موسوعة الفقه ج 62 ـ 68 كتاب النكاح)، وقـد ناقشت الرواية التي تقول: (أنهم قوم مـن الجن قد كشف الله عنهم الغطاء)، وقـد اختلف العلماء في معنى الرواية، وبرأيي أن الأكراد ـ في هذه الرواية ـ هو جمـع (كَرَدَ) وهـو مشتق من كَرَدَ إلى الجَبَل أي ذهب إلى الجبل (جاء في المنجد: كَرَدَ ـ كرداً … العدو ـ طرده كارد مطاردةً: طارده ودافعه. المنجد في اللغة: ص 680).
وظلمهم علماء السنة حين روى الراغب الأصفهاني في كتابه محاضرات الأدباء :
ذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأكراد جيل الجن كشف عنهم الغطاء! وإنما سموا الأكراد لأن سليمان عليه السلام لما غزا الهند، سبى منهم ثمانين جارية وأسكنهم جزيرة، فخرجت الجن من البحر فواقعوهن، فحمل منهم أربعون جارية، فأخبر سليمان بذلك فأمر بأن يخرجن من الجزيرة إلى أرض فارس، فولدن أربعين غلاماً، فلما كثروا أخذوا في الفساد وقطع الطرق، فشكوا ذلك إلى سليمان فقال: أكردوهم إلى الجبال! فسموا بذلك أكراداً.
وظلمهم المؤرخون حين روى المسعودي في تاريخه:
ومن الناس من ألحقهم بإماء سليمان بن داوود عليهما السلام حين سُلب ملكه ووقع على إمائه المنافقات الشيطانُ المعروف بالجسد، وعصم الله منه المؤمنات أن يقع عليهن، فعلق منه المنافقات، فلما رَدَّ اللهّ على سليمان مُلْكه ووضع تلك الإماء الحوامل من الشيطان قال: أكردوهن إلى الجبال والأودية، فربتهم أمهاتهم، وتناكحوا، وتناسلوا، فذلك بدء نسب الأكراد.
والمسعودي هنا اقسى عليهم من (صدام حسين) حيث لم يقنع إلا بنقل الرواية التي تجعل ابوهم الشيطان ! وأمهم المنافقة! غفر الله للمسعودي.
وربما ظلمتهم انا في مقالي هذا حين اتعب نفسي في تكرار هذه الضعاف، والموضوعات، والطرهات التي لا يقبلها العقل وتخالف ظاهرالقران وتسئ لهذا الشعب المحترم.
(( ٦ ))
لا اريد تقييم الظروف التي دفعت أكراد العراق لإقامة العلاقة مع اسرائيل ، من بدايتها الى جنايتها ، لكنها علاقة اضرت بمشروعهم كثيراً . تعتقد ايران ان وجود كردستان مستقلة يجعل اسرائيل على حدودها الغربية الملغومة أصلاً بمشكلة اكرادها، ولم يعد الايرانيون في ظل الحرب الاقليمية القائمة يقنعون بأجوبة هزلية ونكات كان يطلقها (مام جلال) حين يسألونه عن وجود ضابط من CIA في السليمانية ! لان ايران لا تسأل عن ضباط الموساد بنفس اللهجة التي تسأل فيها عن ضباط المخابرات الامريكية . تميل تحليلات وبعض معلومات جهاز المخابرات الايرانية (اطلاعات) ان خلية للموساد موجودة في كركوك قامت بنشاطات ارهابية في طهران منها اغتيال بعض علماء المشروع النووي الإيراني ويعتقدون ان وجود خيوط هذه الخلية في كركوك وليس الأقليم ، تحسباً من ان انكشافها يحرج الأقليم اذا ما انكشفت لان كركوك كانت تابعة رسميا لسلطة بغداد وواقعياً لنفوذ الأقليم.
طهران قالت لبغداد كلمة من راسها العالي: لا نسمح ابدا بقيام كردستان العراق.
لكن لماذا تجلد ايران أكراد العراق بهذه العلاقة مادامت اسرائيل موجودة على حدودها من اكثر من جهة في البر والبحر ؟ فهذه قطر مجاورة لها، وأذربيجان وتركمانستان وتركيا كلها دول مجاورة ولها علاقات رسمية مع اسرائيل ! يقول الاكراد: لقد ذهب العرب طوع ارادتهم لهذه العلاقة لا مجبرين ولا مكرهين فلماذا لا نذهب نحن الاكراد المذبوحين من الوريد الى الوريد، من قبل (حلبچة) و(الأنفال) ومن بعدها؟ اما العراق الذي لم يمنع نائب عربيا سنيا في برلمانه زار (تل ابيب)، فهل سيمنع رئيسا كرديا من ذلك؟
قال مسعود البرزاني لوفد من قيادة حزب الدعوة زاره في أربيل ربيع ٢٠٠٤ [انتم حزب إسلامي له مبادئ وعقائد اما انا فعقيدتي هي مصالح الشعب الكردي التي لو اقتضت ان اذهب الى اسرائيل فسوف افعلها واذهب كما ذهب الوالد البرزاني الكبير]
إنه تحالف الأقليات الشرق- اوسطية لحماية الدول الدينية والعرقية الجديدة التي فاتتها افراح التاريخ.
(( ٧ ))
لا خشية من حروب الجينات المتضادة اذن ، عند تلك الجبال التي تتكلم بالكردي الفصيح ، لكن سيوف داحس والغبراء سوف تقعقع عند السفح حيث تتعانق القرى وتختلط اللغات.
ليس لاحد ان يمنع حلم هذه الامة الآرية النشيطة والشجاعة التي حافظت على لغتها بين ثلاث لغات عريقة هي العربية، والفارسية، والتركية، فلم يخضع اللسان الكردي المبين لهذه اللغات، كما خضعت الجغرافيا الكردية لعواصم واعلام ورايات هذه الدولة، بينما ظل الكرد يرطنون بهذه اللغات الثلاث كما يرطنون معها: بالسياسية والجغرافيا والتاريخ والرصاص مع هذه الدول الغريبة التي حاولت اغتصاب الهوية الكردية.
انه العرق الآري المغرور الذي شمخ في ايران والمانيا وانكسر غروره بين جبال كردستان . كان هتلر يعتقد ان البرد وقلة الشمس هي التي حرمت اجداده العظماء في شمال القارة الشقراء من بناء حضارتهم ، بينما اتاحت الشمس للرومان بناء حضارة في جنوب القارة، وصار من حق أبناء عمه المشرقيين ملا مصطفى البرزاني وعبد الله اوجلان وعبد الرحمن قاسملو ان يجدوا تفسيراً اخر لعدم قيام دولتهم في بلاد الشمس وتحت راية الشمس.
(( ٨ ))
لن نجاور أمة من الجن!! بل سنجد أنفسنا بجوار أمة تغني، وتدبك، وتتاجر، وتزرع، وتسمي احد شوارع هولير (شارع بغداد الكبير).
تكمن مصلحة بغداد الحقيقية في انفصال أكراد العراق في دولتهم المستقلة ، على حدود المحافظات لثلاث وحدود ٨/٤/٢٠٠٣ وسوف تتبدد جميع المخاوف ويجد العراق نفسه جاراً لدولة صديقة ومعتدلة ومتفاهمة ساهم هو في استقلالها وتأسيسها وتحقيق حلمها . لكن عليه ان لا ينسى ستراتيجياته الخمس : الممرالبري مع تركيا ، واتفاق المياه مع كردستان ، وأنبوب النفط الى تركيا، ونوعية التسليح المسوح به -ضمن إطار زمني بعيد – لجيش كردستان.
(( ٩ ))
ستندلع حرب ضروس طويلة ومملة على طول حدود الأقليم مع العراق في حال قرر الاكراد فرض سيطرتهم بالقوة على المناطق المختلطة خارج حدود٨ /٤ / ٢٠٠٣ وهذا هو القرار الذي لا يجد ساسة بغداد للتصريح او التلويح به قبل وقته مبرراً او ضرورة . انها حرب المطالبة بما كان وما سيكون التي امتنعت الإمارات عن خوضها من اجل الجزر الثلاث ، وامتنعت اليمن ان تخوضها من اجل نجران ، وامتنعت تركيا ان تخوضها من اجل قبرص ، وخسرها العراق في الكويت حتى ندم عليها ندامة الكسعي .
(( ١٠ ))
سـلـَّـم على الجـبـل الأشــم وأهلـِـه
ولأنت تــعــرف عـن بــنـيه من هـُم
وتـقـصَّ كـل مـدبَّ رجل ٍعنده
هـو بالـرجــولـة والشـهـامة مُـفعَـم
والثم ثـرىً بـدم الــشـهـيد مخضبا
عـبـقاً يـضـوع كـما يـضـوع الـبرعم
مـتـفـتـح أبـــدَ ألأبـيد كأنـه
فـيما يـُـخـَّـلد عـبـقـريُ مـُلهم
وأهـتف تـجـبـكّ سـفـوحـه وسـهوله
طــرباً وتــبـسـمُ ثــاكـل , أو أيــَّمُ
شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري
(( ١١ ))
لقد ازداد تآخينا
تحت شجرة الآلام
ابو الأدب الكردي الحديث الشاعر (عبد الله گوران)