تأثيرات العواطف على قرارات العقل البشري وأحكامه تؤكد أن العقل موجود لحماية مصالح الإنسان لا الكشف عن الحقيقة، فالعواطف تجعلنا نُدْرك الواقع بالشكل الذي يُناسب مصالح كل واحد منّا، ثم مصالح الجماعة التي ننتمي إليها، وهذا هو السبب الذي يجل آرائنا تختلف حول الموضوع الواحد.
حاسَّتا التذوق والشم تكيَّفتا بالشكل الذي يجعلهما تتحسَّسان الطعام الأكثر فائدة وغنى بالنسبة لنا، لا بالنسبة إلى الضبع، كما أن حاسَّتي التذوق والشم لدى الضبع تكيفتا بشكل يتناسب وحاجاته، وهذه هي الفكرة، فحاسَّة الشم لدى كل من الضبع والإنسان لا تتحسَّس الرواح بشكل مجرد، ولذلك يحكم الإنسان بأن رائحة الموز هي الأشهى، مثلاً، بينما يحكم الضبع بأن رائحة الفطيسة هي الأشهى. القضية لا تتعلق لا بالموز ولا بالفطيسة ولا بالحواس، بل بحاجات كل من هذين الكائنين. وكما يستخدم الإنسان حاسَّتي التذوق والشم في اختيار الطعام الذي يكفل وجوده فانه يستعمل عقله ليحقق نفس الأغراض. ولا يتوقف الموضوع عند تحقيق الحاجات الفرديَّة بل يتعداها إلى الحاجات الجماعيَّة، فيعمل الإنسان على إدراك الواقع بشكل يكفل حماية جماعته، ما دامت الجماعة هي الدرع التي تحميه من اخطار المحيط.
تدور الاساطير دائماً مدار مصالح الجماعة التي تؤمن بها. ما يعني بأن العقل لم يبتكرها للإجابة على الأسلة الكبرى فقط بل لتكون محوراً يشد أواصر جماعته، لذلك نجد بان كل مجموعة بشرية تؤمن بمجموعة اساطير تؤكد علويتها على باقي المجاميع، واسبقيتها في الخلق، واختيارها من قبل الخالق لتحقق أهدافه المقدسة. كل جماعة تفعل ذلك ارضاء لذاتها واعلاء من شائها وذلك لدفع افرادها إلى تفضيل البقاء فيها على الانتقال إلى جماعات أخرى، إذ ليس هناك من يُفضل مغادرة شعب الله إلى شعوب الشيطان.
يختلف المسلمون بتفسير القرآن، كما يختلف اتباع كل دين بتفسير نصوصهم المقدسة، وسبب الاختلاف لا ينشأ من قابلية النصوص المقدسة على انتاج تأويلات مختلفة، بل من حاجة كل جماعة إلى انتقاء التأويلات التي تُناسب مصالحها، ولو كان السبب بالاختلاف هو النصوص فقط لتعددت التأويلات بتعدد البشر، ولما اتفق أعضاء أي مجموعة بشرية على نسق تأويلي محدَّد. وهذا ما يدفع بي إلى القول بأن العقل عبارة عن عضو تطوري الغرض منه تشويه “الحقائق” تبعاً لمصالح الإنسان، وتزداد الحاجة إلى التشويه كلما اضرَّت الحقيقة بهذه المصالح. وعندما يصل الضرر مداه الحرج، وهو ما يحدث غالباً، فإن الحقيقة تتحول إلى عدو، وتصبح وظيفة العقل البشري هنا مشابهة تماماً لوظيف الأنياب عند الحيوانات المفترسة، العقل هنا يكون مسؤولاً عن تمزيق الحقيقة والتهامها لإعادة تمثيلها، لا الكشف عنها.
تخيلوا لو حاولنا، مثلاً، إقناع جميع الأفراد اليهود بأن اليهودية دين باطل واقتنعوا، فهل ستبقى جماعتهم متماسكة؟ لا طبعاً، ولو تفككت فمن سيُعوِّض عليهم الحاجة إلى الحماية والتكافل؟ ألن يضطر كل منهم إلى البحث عن طائفة تؤويه، ثم لن يحصل على غير النبذ والطرد والتشرد؟ نفس الامر يمكن قياسه على باقي الديانات والمذاهب والأحزاب.
يتخلى الإنسان عن المبادئ والقيم عندما يحاول أحد ما قتله، فأهميَّة الحياة تعلوا على كل شيء، وتهديد العقائد لا يختلف كثيراً عن تهديد الحياة. وسابقاً قال علي الوردي نقلاً عن ديوي، بأن العقل البشري عضو تطور في الإنسان بغرض تحقيق مصالحه، بالضبط كما تطور الخرطوم عند الفيل والساق الرشيقة عند الغزال.