صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

العراق.. وطنٌ في سوق النخاسة

 

الواقع كما هو والواقع كما يبدو، ثنائيّة كانط التي يفسّر بها طبيعة ادراك العقل البشري في تأمّلات فلسفيّة خالصة، استطاعت القوى الاستعماريّة وطاغيتها الكبرى أمريكا من توظيف هذا المعطى الفلسفي لبسط نفوذ امبراطوريّتها العالميّة المتوحّشة، فأمريكا اليوم هي قائدة الحضارة الغربيّة التي أبدعت التقنيّة التي غيّرت وجه العالم، وأفادت منها في إسباغ الراحة والسعادة والرفاه بالشكل الذي يسيل له لعاب العالم الثالث ويطمع أن يكون على تلك الشاكلة، فيمجّد للحريّة والانفتاح والحداثة وما بعد الحداثة ظنّاً منه أنّها وسائل الوصول لمرحلة اليوتوبيا الغربية التي تخلب الألباب.

 

هذا هو الواقع كما يبدو لنا، لكن وبعد خمسة عشر عاما من سقوط بقايا الدولة العراقية على يد قائدة الحضارة الرائعة التي تبدو لنا، هل الواقع الذي كان يبدو لنا مطابق أو مقارب للواقع كما هو؟ لقد حاولت أمريكا وما زالت أن تقنعنا بالواقع كما يبدو، من أجل أن نضع كامل ثقتنا بها وأن نخضع لسياستها كليّاً، فجعلت الإسلام عبر القاعدة وداعش يبدو دينا إرهابيا ليس في أدبيّاته إلّا الذبح والحرق والخراب وتدمير المدنية، وجعلت الشعوب عبر دعم حكومات عميلة، يبدو لها أنّها مصابة بعوق في النزاهة والأخلاق وحسن إدارة البلاد بحيث لا يمكن أن تنتج رجالا صالحين لبناء الأوطان، وهكذا أقنعتنا أمريكا بالواقع الذي تريده هي أن نراه وأن نبني أفكارنا وأحكامنا في ضوئه، وليس إذن غريباً أن يستنجد كثير من الناس بأمريكا لتخليصهم من الإرهاب أو حكومات اللصوص، أو الدكتاتوريّات، لأنّ الواقع الذي صار يبدو أنّ أمريكا حضارة التقنيّة هي الحلم وأنّنا من دونها في جحيم.

 

ولكن الواقع الذي يخفى على بعضنا ويحجم بعضنا الآخر عن النظر إليه عمداً، هو أنّ أمريكا هي امتداد لنيرون ونسخة معدّلة عن النازيّة والفاشيّة، ولكن بوحشيّة منقطعة النظير، النوع الأعلى في سلسلة تطور الوحشية البشرية، ولكنّها أتقنت بمهارة عالية توظيف فكر الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع والتاريخ لبرقعة وحشيّتها بالبرقع الذي تبدو من خلاله لنا اليوتوبيا التي يحلم البشر بالبلوغ إلى سواحلها.

 

 

العراق نموذجا

 

بعد الدعم اللامحدود الذي قدّمته أمريكا لنظام صدّام حسين الذي أنهك العراق واستنزف طاقاته البشرية والطبيعيّة، حيث خرج بالعراق من حرب الأكراد إلى حرب إيران إلى حرب الكويت إلى حرب الحصار الاقتصادي وأخيرا إلى حرب الاحتلال الأمريكي الحرب التي قرّرت إنهاء خدمات صدام حسين، والبدء بمرحلة داروينيّة تطوريّة جديدة، ينظمّ فيها العراق عمليّا إلى أملاك الامبراطوريّة الأمريكيّة، غير مباليةٍ ببشره وتاريخه وغير مباليةٍ بحجم الخسائر التي سنجم عنها الابادات البشرية من دون رحمة، وربّما يحملها على ذلك –كما يقول دان براون في روايته الجحيم- شعار دانتي في الكوميديا الإلهية: لكي تصل إلى الجنّة لا بدّ أن تعبر من الجحيم. وهكذا هي جنّة أمريكا الموعودة في العالم أن تدمّر كلّ شيء ثمّ تبنيه على مزاجها الخاص، وليس من باب المصادفة أن يعرض مركز ثقافي في تكساس مؤخّرا خارطة العالم وقد اختفت منها خارطة العراق.

 

 

قراصنة العصر الحديث

 

واحدة من أساليب الامبراطوريّة الامريكية في الهيمنة على البلدان هو أسلوب القرصنة الاقتصادية كما يسمّيها جون بيركنز الاقتصادي الأمريكي في كتابه المهم: الاغتيال الاقتصادي للأمم، اعترافات قرصان الاقتصاد. وهو كتاب ضروري أن يطلّع عليه من يريد معرفة وجوه السياسة الأمريكية والبنية العميقة المخيفة لمؤسساتها وشركاتها.

 

القرصنة الاقتصادية تقوم على هدف إفلاس الخزين الوطني لأيّ بلد من خلال استثمارات وهمية وقروض تمنحها عن طريق صندوق النقد الدولي باشتراطات يفرضها الصندوق نفسه وهي اشتراطات مجحفة كرفع الدعم الحكومي عن المواد الغذائية والصحّة والتعليم والطاقة، وفي أحيان كثيرة وربّما دائما يكون على الدولة المقترضة أن تشغّل شركات أجنبيّة محددة ترتبط بها لتقوم باستثمار القرض لمصالحها.

 

وصندوق النقد الدولي بفوائد قرضه العالية لا ينتظر الدولة المقترضة أن تسدّد ديونها بل لا يرغب بذلك ويعمل على الحيلولة دون ذلك، لأنّ وظيفة الإقراض هي احكام السيطرة الاقتصادية على الدولة المقترضة، وبالتالي إذا أفلست وعجزت عن تسديد الفوائد فضلا عن رأس المال، فإنّ الحل سيكون باقتراح صندوق النقد الدولي الذي يكون بوضع اليد على الثروات الطبيعية لذلك البلد واستثماره بالشروط التي تنفعها وتلحق الضرر الجسيم بشعوب تلك البلاد، وهذا أيضاً تطبيق لفلسفة نيتشة الداعية إلى إبادة الشعوب الفقيرة التي تقف حائلا أمام هيمنة العرق الأبيض الأقوى كما حصل في الاكوادور وغيرها بحسب جون بيركنز في كتابه المذكور.

 

 

قرصنة العراق

 

أسّس الامريكيّون نظاما في العراق بعد السقوط، يعمل على تفتيت ثروات العراق وعوائده النفطيّة، من خلال توزيع الوزارات وفق المحاصصة الطائفية والقوميّة، وفتح المجال واسعا لمنح المشاريع والمقاولات بأرقام ماليّة مخيفة، ومن دون رقابة على الصرف ونوع الإنجاز، لأنّها في الحقيقة عبارة عن هبات وهدايا لتفتيت الثروة العراقية ولم يكن القصد منها النهوض بالبنى التحتية والعمران، ممّا فتح أبواب السرقة على مصراعيها، وتزاحم المقاولون الطامحون إلى الثراء السريع على أبواب القواعد الأمريكية العسكرية، حيث منها كانت توزّع المشاريع الاقتصادية! وتحت سكوت ورضا الأمريكيين تحوّلت وزارات الدولة إلى دكاكين ومتاجر للأحزاب الحاكمة، وعلى مدى أكثر من عقد من الزمان ظهرت خزينة الدولة خاوية على عروشها تزامنا مع هبوط أسعار النفط التي كانت القناة الوحيدة للميزانيّة الوطنيّة، وذهب مليارات الدولارات هباءً في المشاريع العمرانية والخدمية الوهمية، مع القضاء التام على رافدي الزراعة والصناعة، وبسبب جولات التراخيص التي منحها الشهرستاني لشركات النفط الأجنبية كانت الفائدة الأكبر من عائدات النفط ترجع إلى جيوب الشركات ممّا عزّز رغبة الحكومة بطرق أبواب صندوق النقد الدولي، وتزايد القروض حتى بلغت اليوم ما يقارب مائة وعشرون مليار دولار عدا الفوائد التي تتراكم سنة بعد أخرى لعدم امكان الحكومة من التسديد.

 

ومن الاشتراطات التي بدأت تظهر على السطح والتي فرضها صندوق النقد الدولي بعد رفع أسعار المحروقات وإلغاء حصّة المواطن من البطاقة التموينية بنسبة 90 بالمائة، بدأت ملامح خصخصة الكهرباء والصحّة والتعليم، وتسليم هذه القطاعات المهمة بيد الشركات الأجنبيّة المرتبطة بصندوق النقد الدولي من أجل استيفاء بعض فوائد قروضها، ومع تفاقم الأزمة المالية وعدم قدرة الحكومة على النهوض بالزراعة والصناعة فإنّ مطامع النقد الدولي ستستمر، وربّما ينتهي الأمور بعودة الشركات الاحتكاريّة للنفط والغاز. بالضبط كما حصل مع الاكوادور فبعد أن دفعتها القرصنة الاقتصادية إلى الإفلاس وارتفاع نسبة البطالة من 15 بالمائة إلى 70 بالمائة، وارتفاع نسبة الفقر من 30 بالمائة الى 70 بالمائة، مع ديونٍ بلغت 16 مليار دولار، وتحت مطارق مطالبة البنك الدولي بديونه منها اضطرت الى بيع غاباتها للشركات الامريكية لتبدأ مرحلة سرقة البترول، وكانت حصّة الشركات من كل 100 دولار من سعر البرميل الواحد 75 دولار، وتبقى 25 دولار للاكوادور تدفع ثلاثة ارباعها لتسديد الديون الخارجية والمصروفات الحكومية والدفاع، ويتبقى 2.5 للصحّة والتعليم وبرامج دعم الفقراء!

 

هذه هي السياسة المالية لصندوق النقد الدولي، السيطرة على منابع البترول وافقار الشعوب وتجويعهم، وكما حصل مع الاكوادور سيحصل مع العراق إن لم تتوقّف عجلة أطماع الشركات الأمريكيّة بامتلاك العراق وطرد شعبه أو تسخيرهم لخدمة مشروع العم سام من دون مقابل.

 

وفي وسط هذا الحراك التدميري الواضح لوطن اسمه العراق الذي تأسّس قبل ثمانية آلاف سنة كمركز للعلم والحضارة على مرّ العصور، لم يزل شعب العراق منشغلاً عن الواقع الحقيقي بالواقع الذي يبدو له أو الذي صنعته الثقافة الهوليوديّة، فما زال منشغلاً بثقافة الصراعات بين الاسلاميين والعلمانيين، والإسلاميين فيما بينهم، والعلمانيين فيما بينهم، وبين شكل الدولة المقترح (في المشمش) دينية ام مدنية، وعن الايمان والالحاد واللا أدرية، وعن تبادل التهم والفضائح وشر غسيل الخصوم، غير عابئين بالإعصار المدمّر للإمبراطورية الامريكية الذي يشفط بطريقه كلّ شيء ويقضي على كلّ شيء ولن يبقي حجراً على حجر، بما في ذلك الاختلافات الوهمية التي تأقلمنا معها على أنّها واقع، ومع ذلك كلّه ما زلنا نصوّر لأنفسنا أنّنا نملك وعيا سياسيّا!

 

لا أدري إن كان بيركنز صائبا في نهاية كتابه عندما قال إن الكلمة تستطيع إفشال مسعى الولايات المتحدة، كلمة الشعب والمثقفين من شتّى المشارب فيما لو اتّحدت وكشفت أهداف الولايات المتحدة بمحو العراق وشعبه وتاريخه من خارطة الأرض والحياة، بدلا من الخوض في واقع مصنوع من الوهم بجدالات وأفكار غير مجدية للمصير الذي ينتظرنا. من المؤسف أنّ غالبية طلاب الجامعات لا يعرفون النوايا الحقيقية لأمريكا بوطنهم وشعبهم، ولا يدركون سبب الهجمة الغربيّة على الإسلام وكأنّ الأمر يتعلّق بالعقائد القديمة والتعاليم غير المنسجمة مع العصر وما إلى ذلك، مع أنّ القضيّة أبعد من ذلك كثيرا في الواقع وعكس ما يبدو لنا تماماً.

 

الكلمات هي التي تقدح زناد الإرادة الحقيقة الخلّاقة للإنسان، وهي التي تزيح وعيه من قوقعة الهامش إلى مساحة المركز المفتوحة في مسار التغيير نحو الأحسن، الكلمات التي استهان بها يوماً عمرو بن العاص: مجرّد كلمات اكتتبها ودعاها على الله، بوسع الكلمات أن تعيد صياغة صفحات الكتاب التاريخي والكوني الذي تعمل سيّدة الحضارة الغربيّة على تزويره بجعلنا حطباً لنيران مشاريعها الشيطانيّة.

 

أقرأ أيضا