في تسعينيات القرن المنصرم ألف الكاتب الصحفي داود الفرحان كتابا عن زيارته لكوكب اليابان أسماه “بلد صاعد بلد نازل”, قارن فيه الفرحان بعض نواحي الحياة في العراق آنذاك مع مثيلاتها في اليابان! لم يكن الكاتب قليل التجربة، ولم يكن مبتدئا ليقوم بمثل هذه المقارنة الوقحة, لكنها كانت رهينة فترة زمنية وصل بها حال العراق إلى مستوى يرقى للمقارنة مع كوكب وليس مع بلد؟
اليابانيون لا يختلفون عن الآخرين, فقد خلقهم الله كباقي البشر، بل ربما هم ليسوا أذكى من غيرهم من الشعوب ولم يكن شعب اليابان أقل وحشية من الشعوب التي عاصرتهم حتى ضربتهم قنبلتي هيروشما وناكازاكي فكانت ناقوس الصحوة من بعد الثمالة, الفارق أنهم استخدموا عقولهم في تسخير كل ما يمكن له أن يخدم البشرية، وحولوا كل ما يستخدم في الدمار الى ما يمكن استخدامه في بناء الحياة الآمنة.
اليابان بلد علماني ولم تستخدم اليابان الدين في صعودها رغم أنها تتعامل بروح الدين, روح التسامح مع الآخرين والإفادة من أخطاء الماضي.
لقد أيقنت اليابان بأن الدين ليس مجرد طقوس وحركات تؤدى لكسب رضا الله, فالدين عند اليابان معاملة وسلوك وهو ما تعمل بروحه باقي الشعوب المتمدنة, يقول الشيخ محمد عبده بعد عودته من زيارة لباريس عام 1881 “ذهبت للغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مسلمين، لكنني لم أجد إسلاما”، فقد أنبهر الرجل بتعامل أهل الكفر كما يسميهم الإسلاميون رغم أنه رجل دين مسلم.
في الكثير من الأحيان أفكر بجدية وأسال نفسي السؤال التالي “هل سَيُدْخِل الله النار من اخترع الانترنيت لانه غير مسلم أو أنه ليس على الولاية”؟ الجواب المنطقي لا, لأن الله لا يعاقب الناس على أفعالهم التي تخدم الإنسان وإن كانوا غير متدينين أم موالين؟ فهناك من سامحه الله وادخله جنانه لفعل ما قام به رغم أنه لم يكن مسلما؟ يقول الرسول محمد لعدي بن حاتم الطائي “أن الله رفع العذاب عن أبيك لسخائه”, فهو لم ينطق عن الهوى فيما يقول، وكل ما يقوله نابع من حكمة تعود جذورها إلى ما يمليه عليه الله عن طريق القرآن.
هناك شعوب أخرى واجهت أضعاف ما واجهته اليابان في هيروشيما وناكازاكي وكانت كل مدنها في مهب الريح لكنها بدلا من أن تنفض عنها غبار الدمار رفعت شعارا وضعت فيه أرواحها ودمائها فداء لمن يحكمها, شعوب زحفت ولطمت ومازالت تلطم على مصائبها، ظنا منها أنها تلطم على رموزها شعوب استبدلت الدكتاتوريات باللصوص وتجار الدين والخرافات ومازالت تهتف لهم بأن أعظم عادل في التاريخ يقف معهم بعد الله.
لم تكن بعض الشعوب لتصل الى هذا الانحدار، لو أنها كانت تطبق الدين سلوكا وتعاملا وعملا، وليس مجرد طقوس دخيلة لا تمت لكل أديان الله بصلة، السارق يسرق في وضح النهار وفي العلن، والقاتل يقتل باسم الدين, وهناك من ينصب نفسه قاضيا شرعيا ليعاقب من يشاء بالموت, الجميع يلطم ويضرب ظهره بالسياط والجنازير ظنا منه أنه يحيي شعائر الله. أما الحاكم حائر فلا قرار له، لأن وكلاء الله هم الأقوى؟ والقانون لا يطبق لأن قانون العشيرة هو السائد والقرار السياسي لا يتم إلا بمباركة أولياء الله الصالحين.
بلدان لن تصعد وستبقى الأولى في القعر وبامتياز طالما أن شعوبها ساكتة لا تنطق وتعتبر أن ما يجري لها قضاء وقدرا وتعتقد بأن الله خلق الحياة لها فقط، والموت للآخرين، وأن الجنة لها وللآخرين النار, شعوب تعبد الرموز وتنسى أن الله خلقها وخلق رموزها, تلك الشعوب لم تخرج من خيبتها في ظل الدكتاتور بل دخلت دهليزا أظلم لا مخرج منه.