تعتبر اساليب النضال السياسي انعكاسا غير مباشر لثقافة البلد وقيمه ورغم وجود مشتركات كثيرة بين الشعوب فيما يتعلق باساليب النضال عامة فانها تختلف في طريقة اداءها بحسب موروثها الثقافي.
في العراق نحن مدينون للشيوعيين بشكل رئيسي لابتداعهم الاشكال المختلفة من النضال السلمي التي ازدهرت في العراق منذ اربعينات القرن الماضي وحتى اواسط السبعينات, بل ويمكن القول ان اشكال النضال السلمي التي مارستها قوى سياسية غير الشيوعيين انما اقتبستها او استلهمتها منهم, وتعتبر هذه الاشكال من اهم نجاحات الشيوعيين في الماضي، والتي تجلت بقدرتهم على ايصال الافكار الى الناس البسطاء عن طريق الاستحضار والفهم الخلاق للبيئة الاجتماعية والقدرة على ترجمة الفكرة بمفردات مفهومة وبسيطة بمتناول الناس العاديين.
وكان لهذا اثره في انتاج خطاب سياسي مفهوم للعامة وغير مبتذل او متهافت واثر ذلك بشكل مباشر على قدرتهم في استنباط طرق للنضال السلمي من البيئة الاجتماعية بعد تكييفها لتخدم قضية ما لا بل انهم نجحوا في تطويع بعض الافكار والممارسات (المستوردة) لتلائم الواقع المحلي وهو ما اثرى من اشكال نضالهم ومدهم بالقدرة على البقاء في ظروف قاسية وعمل سري.
وقد كان للمرونة في ضم عناصر بسيطة اجتماعيا وثقافيا وعدم تقييد امكانية ترقيهم في الحزب لاسباب الثقافة او عدم التعليم ان سمح لهؤلاء ان يقدموا اداءا مبهرا بل وعبقريا في ترجمة الفكرة المعقدة بمفردات بليغة شعبية..في ظل نشاط سياسي واسع ووجود جسم سياسي كان قادرا على التعبير عن الواقع انتجت الوطنية العراقية اشكالا عديدة من النضال السياسي السلمي اربكت اجهزة السلطة وعززت صلة الجسم السياسي بالناس واعطته مرونة الحركة رغم سياسات منع العمل الحزبي والقمع, وكان من اساليب النضال السياسي لتفادي المنع العمل تحت واجهات اخرى او ضمن نشاطات مهنية وهو امر لا يعني اعادة العمل به في ظل ظروف العمل العلني الا قصورا وفقرا في اشكال النضال السلمي وهذا انعكاس ليس فقط لعدم وجود الجسم السياسي الملائم بل ولحالة التراجع في وعي المجتمع ونتائج السياسات القمعية لاربعة عقود ادت لتغيير المجتمع.
ان عدم وجود اشكال من النضال السلمي تتيحها الحرية النسبية المتوفرة الان واقتصار ذلك على اشكال قليلة وغير ناجحة تحاكي الماضي او مجتمعات اخرى هو ليس فقط فشلا للقوى السياسة لكنه يبين العطب الذي اصاب القوى الحية في المجتمع ومدى التغير السلبي الذي حدث للمجتمع العراقي ما افقده بعض طبائعه الاصيلة مثل التنوع الذي لم تعد له اي ترجمه في الحياة الاجتماعية او السياسية, وهو السمة التي انعكست في الماضي باداءات متعددة وثرية في مجالات الحياة العراقية ومنها اشكال النضال السلمي.
ان اي محاولة لاعادة انتاج اشكال جديدة وفعالة من النضال السلمي يجب ان تاخذ ذلك بنظر الاعتبار فالمسالة ليست تقنية او حتى سياسية والا فيمكن استيراد افضل التقنيات النضالية من شعوب اخري او تكليف بعض الخبراء السياسيين لاعداد اشكال من النضال السلمي لكن الموضوع اعقد من ذلك بكثير فالموضوع يرتبط اساسا بواقع اجتماعي سياسي هو حالة المجتمع وتراجع وعيه وفقدانه لبعض مقوماته اذ مثلا واحدة من نتائج سياسات حكومات مابعد 1963 هو تصفية الطبقة المتوسطة احيانا بتعمد وادراك واخري كناتج عرضي لسياسات اقتصادية واجتماعية,وهي الطبقة التي ساهمت بفاعلية في تقديم حركة سياسية حية وواسعة وحركة فنية رائدة بل قدمت ايام قوتها وازدهارها اداءا يليق بمتطلبات قيادة دولة,هذا من ناحية وهو يحتاج معالجات وسياسات طويلة الامد وتطورات بعضها خارج قدرة وارادة اي قوة سياسية ومن ناحية اخرى هناك قصور سياسي في فهم الواقع والاستجابة له من قبل النخب السياسية الحالية وهو القصور الذي يستدعي تغييرا في العقلية والمنهج وفي النهاية يقتضي دماءا جديدة تنتمي للواقع الراهن وتفهمه ولها تصور بكيفية التعامل معه وليست مثقلة باعباء الماضي الفكرية.
ان عملية معالجة القصور السياسي للنخب الحالية يجب ان تمضي بشكل موازي لعملية تكوين الجسم السياسي الملائم وخلال ذلك يمكن القيام بفعاليات سلمية بمستويات مختلفة وتحت اشراف نواة الجسم السياسي قيد التكوين حيث ستكتسب هذه النواة الخبرة والمشروعية مع التقدم في نجاح هذه الفعاليات ونبذ الفعاليات التي يثبت فشلها…في النهاية يمكن اعتبارهذا الحراك البطيء والعميق هو بذرة التغيير الايجابي المطلوب للمجتمع.