يبدو أن المطالبة بحرية الفكر مبنية على افتراض مسبق، وهو أن الفكر مقيد ومحدد مسبقاً بقيود أو حدود مفروضة من الخارج. أي أنه، بعيداً عن هذه القيود الخارجية، سيكون غير محدد حراً بالمطلق. وإن وجود آديولوجيات فكرية تحدد التوجه الفكري للأفراد، يؤكد الفكرة السابقة، حيث يمكن ملاحظتها في كافة الانتماءات الدينية، الحزبية، الطائفية والمناطقية.
وهذه الآديولوجيات التي تطرح أفكارها ومفاهيمها تحدد من خلالها – وعلى سبيل المثال- “الصواب والخطأ” كما تراه، وتدفع الأفراد المنتمين لها لتحديد مفاهيمهم عن الصواب والخطأ تبعاً لما تقدمت به.
مثلا.. أنا كفرد أنتمي إلى حزب معين يرى أنه من الأفضل إقصاء الآخر وعزله، فإن انتمائي سيفرض عليّ الإيمان بالرؤية المطروحة، وأن أسعى في كل فكرة إثبات صحة هذه الرؤية، وسأقوم عندها بتحليل كافة المعطيات المطروحة في الواقع لإثباتها أيضاً، وبالتالي فإن أي تصرف مسيء من الآخر، أو غير مقبول لي، حسب معاييري، سيعزز فكرة الإقصاء لدي.
في هذه الحالة، فإن جميع الأفراد المنتمين لفكر ما يمتلكون مفاهيم معدة مسبقاً لخدمة “فكر الحزب، أو الدين أو الطائفة”. أي أنها مفاهيم مشوهة هدفها الوحيد تعزيز سلطتها.
بناءً عليه، فإن الفرد الذي يملك مفاهيم مشوهة، وبما أن المفاهيم هي أساسيات التفكير، سينتج لدى هذا الفرد فكراً مشوهاً.
وكما هو الحال بالنسبة لأي انتماء لفكرة دينية يتم شحنها آيدولوجيا لإنتاج مفاهيم مشوهة عن الجسد والجنس والحرية والعبودية وغيرها، فإننا بطبيعة الحال لا نستطيع أن ننتظر تفكيراً سليماً من أصحاب هذه الانتماءات، وإن كل ما نستطيع فعله هو طرح وتقديم مفاهيم جديدة، ولاسيما المفاهيم التي تمثل أساسيات التفكير المنطقي.
ومن المؤكد أننا هنا سنواجه صعوبة باستخدام المصطلحات اللغوية التي أصابها التشويه أيضاً، وصارت ترمز في ذهن المتلقي لمعانٍ مخالفة للمعنى الذي نريده. أي أنها فقدت وظيفتها في إيصال المعنى المطلوب.
فنحن لا يمكننا التكلم عن الحرية مثلاً إلا ونواجه بالرفض المسبق من قبل الأفراد الذين ينتمون إلى مجتمع معين، يصوّر الحرية على أنها استباحة جنسية. في هذه الحالة الرفض المسبق للأفكار المطروحة سيحبط الجهد المبذول في سبيل التغيير.
إن هذه العملية – عملية طرح مفاهيم جديدة وتصحيح معاني المصطلحات – تبدو شبه مستحيلة، وهي بحاجة إلى دقة عالية، ووعي بالطبيعة النفسية والاجتماعية للأفراد الذين نتوجه لهم. وكذلك فهم دقيق للمعتقد الذي يؤمنون به.
إن وعينا بالصعوبات التي ستواجهنا لا يعني التخلي عن مهمتنا، أو أن نشعر بالإحباط والعبثية اتجاه أي محاولة نقوم بها، بل على العكس، إن معرفتنا بهذه الصعوبات يدفعنا للاستفادة بأكبر قدر ممكن من فهمها وفهم طبيعتها للتغلب عليها.
كما ذكرت سابقاً، إن التشويه الذي أصاب المفاهيم والمعاني سيتسبب بالرفض المسبق لكل طرح، لذلك علينا أن نعمل على ألا نقدم طروحاتنا بطريقة معادية، وألا نؤكد أو نشير إلى المعنى المغلوط الذي يسبب رفضهم.
مثلا.. إذا كنا نريد أن نعيد طرح مفهوم الحرية بمعنى جديد يختلف عن المعنى السائد في مجتمعنا، فهو غالباً ما يقدم هذا المفهوم بمعنى التعري والإباحية الجنسية، فمن المؤكد أن الحرية لا تنادي بالإباحية أو التعري وإنما تقول: يحق للفرد -ذكر أو أنثى- ممارسة الجنس دون أن يتعرض للأذية الجسدية والنفسية. لكن طالما أن أبناء المجتمع المعني يتهيبون من ذكر الحرية الجنسية، سيسارعون للرفض دون محاولة فهم المعنى الجديد، لذا فمن الممكن تقديم طرح جديد لمعنى الحرية، لا يركز على الإطار الجنسي دون إهماله، علماً أن الحرية غير محصورة بإطار واحد، لذلك بإمكاننا التكلم عن الحرية بما تمثله من إرادة وفكر واستقلالية، وبذلك سنضمن ولو جزئياً عدم الرفض المسبق.
كما أنه من الممكن التوجه بـطرحنا لمخاطبة الفرد لا الجماعة، حيث يبقى من الأسهل تحفيز فكر الفرد وإثارة أو استغلال حب الفرد للإطلاع والاكتشاف أكثر منه لدى مخاطبة الجماعة.
كاتبة سورية