صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

حزب البعث في العراق (5)

 

كان العام 1968 هو عام الثورة الطلابية اليسارية في اوروبا وعام تطويب جيفارا رمزا للثورة العالمية بعد مقتله الماساوي في ادغال بوليفيا كما كان عام التدخل السوفياتي في جيكوسلوفاكيا.. وفي العراق كان العام 1968 هو العام الذي تلى انشقاق الحزب الشيوعي الى جناحين احدهما قدم طروحات ثورية تدعو لمقاربات جديدة للتعامل مع الوضع السياسي العراقي كان الوجه الابرز لترجمتها هو الكفاح المسلح في الاهوار في محاكاة للتوجه الجيفاري والرد على هزيمة 1963.

 

لقد كان المزاج الشعبي العام يساريا تحت تاثير صعود اليسار في اماكن عديدة في العالم تدعمه رغبة داخلية في استعادة اجواء حكم الزعيم قاسم الذي اغتاله البعثيون والقوميون في العام 1963 واجهزوا على توجهاته الوطنية,وقد بدا اضراب الطلبة اواخر العام 1967 كانه البروفة الاخيرة لتحرك سياسي من نوع ما لانهاء حكم الرئيس عبد الرحمن عارف وقيام حكم وطني يساري  الامرالذي كان يتم تداوله على نطاق شعبي واسع وقد كان ملفتا ان كل القوى السياسية المعروفه وباتجاهاتها المختلفة ايدت الاضراب عدا البعث (جناح البكر- صدام) الذي اتخذ موقفا معاديا انتهى بصدام مسلح قاده صدام شخصيا ضد المضربين في كلية الحقوق التي كان نظريا طالبا بها,وان كان يجب التنويه ان هذا الجناح طلب في وقت سابق المشاركة في لجنة قيادة الاضراب اذ رفض طلبه من كل القوى السياسية الاخرى.

 

لقد كان موقف البعث من الاضراب هو المدخل لرفع العزل عن نشاط البكر السياسي الذي جاء في اعقاب حركة 18 تشرين 1963 التي اطاح العسكريون القوميون بزعامة عبد السلام عارف بحكم البعث.. وهكذا، فبينما كانت الاجواء تنبئ باحتمال وجود تحرك يساري لاخذ السلطة في ظل ظروف مواتية محليا ومنسجمة مع التطورات العالمية فان قوى اخرى يمينية مرتبطة بشكل او اخر بجهات اجنبية هي التي تحركت لاسقاط حكم عبد الرحمن عارف,والتي بسبب فقدانها القاعدة الشعبية بحثت عن قوة سياسية تملك حضورا في الشارع لتكون واجهتها السياسية وللتغطية على الخلفيات المشبوهة لها.

 

لقد اوضحنا في الاجزاء السابقة المراحل التي مر بها البعث ليتحول من حزب سياسي يمثل مصالح وتفكير جزء من المجتمع العراقي ضمن سياقات عمل حزبية الى تنظيم تامري تقوده فئة صغيرة، وعندما عرض بعض الضباط على حزب االبعث التعاون في انقلاب ينوون القيام به على حكم الرئيس عبد الرحمن محمد عارف بعد ان ياسوا من تعاون قوى سياسية اخرى (على الاقل نعلم ان الحركة الاشتراكية العربية رفضت ذلك على ذمة امينها العام فؤاد الركابي) سارع صدام باقناع البكر الحالم بالعودة للسلطة بقبول العرض بدون تردد مقدما له الاجابة عن تساؤل وماذا بعد؟ رغم الشبهات التي تحيط بارتباطات هؤلاء الضباط الخارجية، وقد كان صدام جاهزا بالذات لاستثمار هكذا فرصة، وهو الذي قد لايكون يملك تصورا مسبقا عن الطريقة التي جرت بها الامور لاحقا لكنه بالتاكيد وجدها فرصة للوصول الى السلطة وفي نفس الوقت السيطرة على الحزب الذي كان لازال ضمن تنظيماته القيادية شخصيات حزبية قوية وصاحبة قرار.

 

لقد قوى انقلاب 17 تموز العسكري مركز صدام في الحزب والدولة من خلال ازدياد تاثيره على البكر بعد نجاح الانقلاب والنجاح اللاحق في القضاء على المنفذين الحقيقيين للانقلاب (30 تموز 1968) لتصبح السلطة بشكل كامل بيد حزب البعث..لقد كان حلم العودة للسلطة بالنسبة للبكر عدا كونها جزءا من موقف سياسي مسالة شخصية  كان يريد منها استعادة كرامته وسمعته اللتان هدرتهما استقالته العلنية من حزب البعث واعتزاله العمل السياسي بطريقة مهينة، وقد لعب صدام على هذا الوتر الحساس ما جعله  قريبا له بشكل لايتناسب مع حجم واهمية دوره في انقلاب 17 تموز 1968 وقد كان لذلك تاثيره في اعطاء صدام الدور الاساسي في عملية التخلص من قادة هذا الانقلاب الحقيقيين (ابراهيم الداود وعبد الرزاق النايف) والتي كانت تحتاج عملا تامريا جراحيا غادرا يبرع فيه صدام دون ان يتطلب الامر قاعدة حزبية تنظيمية وهو ما تم بنجاح وكان المبرر للبكر امام الاخرين لوضع صدام في موقع متقدم في الحزب والدولة الذي كان مطمئنا ان صدام هو سلاحة ضد المتامرين او المنافسين داخل وخارج الحزب دون ان يخشى منه بعد ان اوصله الى موقع لم يكن ليتبواه بجهوده او كفاءته.

 

في ظل البكر وبالاستفادة من نفوذه وقوته خاصة في المؤسسة العسكرية التي كان ضباطها وحتى البعثيين منهم لا ينظرون لصدام بجدية وكان يمكن للبكر في اي لحظة وحتى العام 1975 ان يامر ضباطها باعتقاله لكن صدام الذي كان يعمل بصمت من اجل مد نفوذه الى المؤسسة العسكرية عن طريق الدورات الخاصة والاحالات على التقاعد ويتصرف بحذر شديد مع البكر مبديا كل فروض الطاعة والولاء والعرفان متجنبا المساس بالعديد من القيادات الحكومية والحزبية وحتى العسكرية المؤيدة للبكر والتي تنظر بريبة لصدام ولذلك لم يتدخل صدام في الاداء الحكومي للعديد من مؤسسات الدولة التي اعتمدت على الكفاءات الوظيفية وبحماية عقلية البكر الي كان لازال يحترم التراتبية في السلم الاداري للدولة ويحترم الكفاءة شرط ان لا تكون معادية للنظام وهذا يفسر الانجازات التي تحققت في مختلف المجالات طيلة الفترة من العام 1968 حتى العام 1979 حين تمت تنحية البكر وطاقمه وبدات عملية استئصال الدولة وكوادرها غير الموالية وحتى تصفية الحزب بصفته كيانا سياسيا مثل على الدوام جزءا من المجتمع العراقي له مصالحه وتفكيره مهما اختلفنا معه ومع ممارساته السابقة، اذ قام صدام بتحويله الى مجرد جهاز للمراقبة والحشيد الاعلامي في عملية كانت قد بدات بصمت وسرية لكنها تحولت الى اجراءات علنية ومباشرة منذ اعلان ساعة الصفر في 17 تموز 1979.

 

كل القرارات التي اتخذها صدام بعد ذلك التاريخ سواء كانت حزبية او سياسية او ادارية مثلت اوامر من شيخ قبيلة وان اتخذت اشكالا متقدمة تنظيميا او تقنيا فلم يعد هناك اي جهة في الدولة او الحزب لها دور في قرارات صدام او مراجعتها.

 

مهما كان راينا في حزب البعث وسياساته وفي الصفقات مع قوى محلية مشبوهة واخرى خارجية لوصوله للسلطة فان هذه السياسات مثلت فكر ومصالح فئة اجتماعية كان ذلك جزءا من طرق وسياقات عملها كما اوضحنا في الاجزاء السابقة,لكن سياسات صدام حسين التي هدفت لسيطرته الشخصية جعلت الحزب يكف عن تمثيله لاي فئة اجتماعية او لمغزى سياسي وهذا كان الاساس في تشويه صورة المجتمع وتركيبه واشكال تمثيله السياسي سيما وان ذلك ترافق مع اجراءات قسرية لتغيير الحقائق السياسية والديموغرافية التي لاتناسب مصالح وتفكيرصدام ماادى الى احداث عاهات في جسد المجتمع ووعيه لا زلنا نعاني منها الان، بل هي الاساس في ظهور الاسلام السياسي بقوة وبشكل واسع بديلا عن الحركات السياسية واختفاء الصراعات والخلافات السياسية المبنية على اساس مصالح وتفكير القوى السياسية الممثلة لواقع اجتماعي وثقافي ..ان الاسلام السياسي رغم انه كان موجودا بشكل محدود لكنه ازدهر مع تراجع الوعي وقمع الحركات والافكار السياسية، وبهذا فان الاسلام السياسي هو الابن غير الشرعي لسياسات صدام التي بدونها لم يكن يملك فرصة الانتشار في ظل الوعي السائد انذاك.

 

لم نحاول في هذا الجزء مناقشة تفاصيل كثيرة وهامة في فترة حكم صدام الممتدة من 1979 حتى 2003 لاننا معنيين فقط بالجوانب الفكرية في مسيرة هذا الحزب وهو مافعلناه في الاجزاء السابقة في حين ان الحقبة اعلاه رغم اهميتها فهي تندرج ضمن التاريخ الشخصي لصدام وهو امر يستحق الدراسة لكن ليس ضمن هذا البحث, وبهذا نكون قد اكملنا بحثنا عن حزب البعث بعد بحثين عن الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي في اطار فهم المقدمات التي ادت للوضع السياسي الراهن، اذ سنقوم في المقالات القادمة بتقديم الخلاصات عن بحثنا في الاحزاب المذكورة.

أقرأ أيضا