لكلِ حقلٍ من حقول المعرفة أرضيّته وأدواته الخاصة، يخلق الفن في أعماقنا مدركات حسيّة كانت ميّتة، ويثير فيها دفقا جديدا من الحياة لم يكن ظاهراً من قبل.
نسمع أنغام الموسيقى فتنفعل ذائقتنا الجمالية، ونقرأ قصيدة شعرية ونشاهد لوحة فنيّة، فتشرق فينا مكامن كانت مختفية.
فمن هذه الناحية يتّخذ الفن وظيفة جمالية يمنحنا إيّاها، ومهما طال أمد العمل الفنيّ يبقى خالداً، وكأنه يصارع حركة التاريخ ويتغلّب عليها.
يبقى الوجود فوضوياً ما لم تكن لدينا أدوات دقيقة لفهمه وتعقّله. فنحن أمام تجربتين لفهم الوجود: الأولى هي التجربة غير المباشرة، وأعني بها تلك التجربة العابرة للمفاهيم، وهي ما يمكن أن نسميه بـ”الحدس الصوفي”، إنها تجربة عابرة لكل أنماط التصورات المسبقة.
أما التجربة الثانية،هي التجربة التي تفهم الوجود من خلال المفاهيم، وتعرّفه بسلسة دقيقة من المفاهيم، ولا أعني بها المفاهيم اللغوية الشائعة، بل المفاهيم الفلسفية التي بدعها الفلاسفة، كمفهوم المٌثُل لأفلاطون، والجوهر لأرسطو، والصيرورة لهيراقليطس، والموناد لليبنتز… ألح.
إن هذه المفاهيم بمنزلة الكاشف التي تفسّر لنا الوجود، وتمنحنا طرق التفكير من خلالها، ذلك إن الذهن لا يفكر إلّا من خلال المفاهيم فيوّحد الكثرة المتشعّبة ويكثّفها من خلال المفاهيم.
والفهم الآخر للوجود يتم من خلال العلم، ولهذا الأخير مساحة يكتشف من خلالها القوانين الناظمة لهذا العالم، لكن بأي أدوات؟، بمعنى إن كان الفن يحرّك فينا المدرك الحسي، والفلسفة تعطينا فهمها من خلال المفاهيم، فعلى أي أرضية يتحرّك العلم؟.
إن العلم ليس معنيّاً بالمفاهيم، ولا بالمدرك الحسيّ الجماليّ، وإنما يكتشف من خلال الدالّة العلمية. بكلمة أخرى أنه من خلال تجاربه الحثيثة يعمد في نهاية المطاف إلى إعطاء نظرة مترابطة ومتكاملة، من خلال سلسلة من الدوال الرياضية، ليصل إلى نتيجة مطابقة لما توّصل إليه، فمن خلال هذه البرهنة الدقيقة تظهر لدينا قائمة متراصّة ومتينة، تُختَزَل على شكل دالّة علمية.
إذن ونحن في هذا الوجود الهائل والحافل بالألغاز تتضافر ثلاث حقول مهمّة لفهم هذا العالم: الفن من خلال المدرك الحسيّ, العلم من خلال الدالّة، الفلسفة من خلال المفهوم.
الفلسفة والفن قديمان قدم الإنسان، والعلم مولود جديد قدّم لنا خدمات عظيمة ولازال. وبفضل مواقع التواصل الاجتماعي وسرعة انتقال المعلومة، والترجمات المتوفرة، بدأنا نقترب من من هذا المولود العظيم.
لكن (واحسرتاه!) نحن نسبح في دائرة معلومات معزولة عن بيئتها الحقّة وهي المختبر. لذا فإنها تتحوّل إلى خطاب جدلي بين الدينيّ والملحد بشكل عام، وكأن العلوم قدرها الأول والأخير أن تتحوّل إلى أداة خرقاء لتغدو جدلاً فلسفيّاً بعيداً عن فوائدها العظيمة.
إن خطيئتنا تكمن هنا وبالذّات، حينما نلوّث أنقى منجزات العقل البشري بسموم الآيدلوجيا القاتلة، وتتحول الكشوف العلمية العملاقة إلى التنّدر تجاه الآخرين، والاستعلاء عليهم، حتى لو لم نكن مشاركين بحرف واحد من الإنجازات العلميّة!، إذ يكفي أنها تضمن لنا ميزة وتفوّق نظري.
يداهمنا جهلٍ من نوع آخر، يشترك فيه المتديّنون, والعلمويّون، فالأول يبشّرنا بثورة علمية في الكتاب المقدّس تاركاً مساحة الإيمان التي تمثّل جوهر الأديان، والثاني يبشّرنا بآيدلوجيا علموية يجرّدها من محيطها الحقيقي، وهو المختبر، والمنهاج، والأستاذ، والطالب، وهي في أحسن حالاتها ليست سوى بنك للمعلومات تثري أدمغتنا، ولا تثري مناهجنا الدراسية، ولا واقعنا البائس.