صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

دائرة الوعي المغلقة (3)

 

وصلت في المقال السابق إلى فكرة أن من العبث أن نرسل رسائل إلى الكائنات غير البشريَّة، لأن هذه الكائنات لا تستخدم بالضرورة الضوء أو الصوت في عمليَّة التواصل، وبالتالي فكيف نبعث لها برسائل تحتوي رموزاً لغويَّة أو صوراً وأصواتاً؟ وهذه النتيجة كانت واردة في سياق فكرة أن دائرة وعينا مغلقة على نفسها ولا يمكنها أن تتواصل مع أي كائن مختلف.

 

في هذا المقال أريد، وأنا استمر بطرح أبعاد فكرة الانغلاق، أن ألفت النظر إلى أنَّنا لا نمتلك أي أداة تَصْلح للتحقق من دقَّة عقلنا وهو يقوم بعمليَّة إدراك الواقع. فهو وحده الذي يُدْرِك، وهو وحده الذي يَحْكم بمدى تمام ودقَّة إدراكه، وهذا الموضوع يُمَثِّل واحدة من أكثر نقاط ضعف وعينا خطورة علينا، فضلاً عن كشفه لمدى الانغلاق الذي نعانيه بسببه، فهذه النقطة تشير إلى أننا، كبشر، محتجزون داخل جزيرة مقطوعة عن أي شيء آخر غير عقلنا الذي يتحكَّم بنا وبها بتفرد تام. إذ لا شيء يُمكن أن يكون موجوداً بالنسبة لنا إلا ما يستطيع هو أن يُدركه فيحكم بوجوده، ولا شيء يمكن أن ينتفي من الوجود إلا ما لا يدركه هو فينفيه ويحكم بعدم وجوده.

 

وحالنا هذه تشبه حالَ كفيفٍ صادف أنه وُلِد في مكان خال من أي أحد سواه من البشر، فاضطرّ إلى أن يتعرَّف على الأشياء لوحده وباستعمال أربعة حواس فقط، وهذه الحواس بالإضافة إلى عقله تكوّن تشكيلة وعي لا يمكنها أن تعطيه رؤية دقيقة وشاملة عن الطبيعة، بل مجرَّد انطباعات عن نزر يسير منها. فهو مثلاً لن يُشكِّل مفهوماً خاصَّاً بالطيور والطيران، ولن يعرف معنى السماء والنجوم والكواكب، ولا الفرق بين البحيرة والبحر والمحيط. الكثير من مفاهيمه التي سيكوِّنها عن الطبيعة والوجود ستكون مختلفة عما نعرفه نحن. لن يفكر باختراع النظارات الطبيَّة ولا المنظار ولا المجهر ولا التلّسكوب ولا أي جهاز ذو صلة بحاسَّة البصر. لكنه سيركِّز كثيراً على المسموعات والملموسات، سيبتكر بالتأكيد أجهزة تلتقط الأصوات الواطئة جداً وتميّزها بدقَّة متناهية وسيُصنّف الكائنات بالاستناد إلى اختلاف اصواتها وسيكتشف بالتأكيد أصواتا كثيرة لا نعرفها نحن. لكن الأصوات لوحدها لن تجعله أبداً يُدرك الأشياء كما نفعل نحن، سَمُيِّز، مثلاً، بين الببغاوات وبين غيرها من الطيور بسبب اصواتها، لكنَّه لن يميِّز بين الببغاوات بحسب ألوان ريشها، ولن يعرف الإحساس بجمال الوان هذا الريش.

 

هناك الكثير من النظريات والقوانين سيكتشفها هذا الكفيف، وستكون دقيقة وقابلة للتطبيق، وستساعده على اختراع الكثير من الأجهزة التي تجعل حياته أكثر رفاهية، لكنه لن يفكر بأي نظريَّة تتعلَّق بالفلك، مثل استعمال الهندسة في قياس الأبعاد بين النجوم، أو التفكير بعلّة ابتعاد المجرات عن بعضها، أو سبب دوران الشمس حول الأرض؛ لأنه لا يدرك لا الشمس ولا السماء بكل ما فيها من غنى، كما نفعل نحن. نعم سيشعر بحرارة الشمس، لكنه لن يعرفها كما يفعل أي مبصر، ومن ثم فلن يتعب كثيراً حول ما إذا كانت تدور حول الأرض ام ان الأرض تدور حولها.

 

الفكرة من وراء هذا المثال أن نقص حاسَّة البصر، من وجهة نظرنا نحن المبصرون، قد منع هذا الكفيف من إدراك الكثير من الأشياء التي تحيط به، والتي نُدركها نحن ولا يفعل هو، دائرة وعيه بالنسبة لنا محدودة، لكن المشكلة أن هذه الدائرة بالنسبة له متكاملة، ولا ينقصها أي شيء، لأنها، وكما يعتقد، قد مكَّنته من إدراك جميع الأشياء من حوله. لن يشعر أبداً بنقص منظومته الإدراكيَّة وأن هناك أشياء كثيرة موجودة حوله لكنه لا يستطيع إدراكها، فمن أين له أن يعرف بوجود النقص، إذا كان عقله يخبره بعدم وجوده وهو ليس لديه أي منفذ للإدراك غير عقله؟!

 

إذن فالواقع يزداد غنى كلما زادت القدرة على إدراكه، لذلك هو أكثر غنى بالنسبة لنا، لأننا نمتلك حواسّاً خمسة، وأكثر فقراً بالنسبة للكفيف لأنه يمتلك فقط أربعة حواس، لكن ماذا لو امتلك كائن غيرنا ستة حواس، أو سبعة، أو عشرون أو حتى ألف؟ كيف سيكون شكل الواقع بالنسبة له؟!

 

إن اضطرارنا إلى الاعتماد على دائرة وعينا وايماننا التام بكمالها يشبه اعتماد الكفيف على منظومة وعيه وإيمانه بكمالها، وقبولنا بأن يكون عقلنا هو الحاكم والمحكوم عليه، يشبه قبول الكفيف بنفس الموضوع. لذلك خدعه جهازه الإدراكي لأنه محبوس داخله؛ فكلَّما احتاج إلى التأكد من دقَّة هذا الجهاز اضطر إلى الرجوع إليه، فيخبره بأن الدقَّة كاملة، كما يفعل جهازنا معنا.

 

وبالعودة إلى أصل الموضوع، هل يمكننا أن نخرج من الجزيرة المعزولة التي يَحْبِسُنا عقلنا داخلها يوماً؟ لا طبعاً وكما يحصل الأمر مع الكفيف، الذي سيبقى محبوساً داخل محدوديَّة وعيه التي ستحول بينه وبين رؤية الألوان والإحساس بجمالها. سنبقى نحن كذلك، وكما أن الكفيف لن يشكَّ يوماً بحقيقة أن ريش جميع أنواع الببغاوات متشابه لن نشك نحن بأي حقيقة يُمليها علينا وعينا.

 

ما يعتبره العقل البشري “المحدود” مقدساً، سيكون مقدَّساً وسيبقى كذلك، وما يعتبره مُدَنَّسا، سيضل كذلك، وخطورة هذه المشكلة تتجلى بشكل واضح عندما نتذكَّر أن الكثير من أحكام هذا العقل تَشكَّلت في بدايات رحلة وعينا التاريخيَّة؛ أي قبل أن ننضج معرفيّاً، فهذا العقل قبل مئات الآلاف من السنين لم يكن بالحال التي هو عليها الآن، أقصد حال التراكم المعرفي الذي حقَّقه، لكن المفارقة أن أكثر التأسيسات المفاهيميَّة، التي قام بها هذا العقل تأثيراً على حياتنا قام بها في تلك الأوقات الموغلة بالقدم، أيام كان تجربته لم تزل فتيَّة وتراكمه المعرفي فقيراً ويكاد أن يكون ساذجاً. مفهوم الرب، مثلاً، أسسه في ذلك الوقت، مفاهيم: (الروح، النَفس، الجسد، العالم الآخر، الملائكة، الشياطين…) فكرة الدين، معنى الزواج ومؤسسة العائلة، العلاقة مع الكائنات الحيوانيَّة الشريكة لنا بهذه الأرض، فكرة الأنانيَّة، فكرة الملكيَّة معنى السلطة وأشكالها وووو الخ.

 

بالنتيجة عقلنا لا يُرينا الواقع كما هو، بل يحتجزنا داخل بانوراما رسمها هو عن هذا الواقع ولا يسمح لنا بان نستكشف مدى المطابقة بين هذه اللوحة وبين الواقع الذي تُعَبِّر عنه، والمشكلة أن أغلب أجزاء هذه البانوراما العظيمة رُسمت بوقت مبكر، أيام كانت قدرة عقلنا على الرسم في بداية تبلورها.

 

أقرأ أيضا