انتخاب الشاب الطموح إيمانويل ماكرون رئيسا لفرنسا كان بمثابة ثورة فرنسية جديدة في نظر البعض، خصوصا وأنه أقصى عتاة السياسة الذين تفوق خبرتهم السياسية عمره الحقيقي, ثورة لم تستخدم المقصلة لإقصاء الحاكم كما فعل الثوار بالملك لويس السادس عشر والملكة ماري أنطوانيت قبل ثلاثة قرون، لكنها استخدمت مقصلة سياسية أطاحت برؤوس الجمهوريين والاشتراكيين والشعبويين واليمينيين على حد سواء.
أقنع ماكرون رغم حداثة عهده في عالم السياسة الناخب الفرنسي بانتخابه دون أن يستخدم الكنائس ودور العبادة لتجميع الأصوات ودون أن يطلب من القساوسة ورجال الدين بأن يُحَرِّموا الزوجات على أزواجهن إن لم ينتخبوه ولم يصور نفسه مع المسيح في دعايته الانتخابية ولم يوزع كارتات شحن الموبايل أو البطانيات والزيت والرز على الناخبين لشراء أصواتهم، ولم يعد بتوزيع قطع أراض على أبناء الضواحي الفقيرة، بل طرح برنامجا وجد فيه الناخبون الفرنسيون باختلاف طوائفهم وأديانهم وأعراقهم وخلفياتهم الفكرية والثقافية أنه الأفضل بمقابل اليمين المتطرف الذي سيعيدهم إلى حقبة ما قبل الثورة الفرنسية كما عادت شعوب إلى فترة ما قبل الحضارة حين وضعت زمام أمورها بيد المتاجرين بالدين والظلاميين.
تبقى الغلبة دائما للشعوب, وتبقى ديمومة الديمقراطية بيد الشعوب ويبقى الشعب الواعي متمتعا بحياة حرة كريمة طالما يعي كيف يديم المفاهيم الديمقراطية التي ناضل ونزف دما من أجلها ومن أجل إعلاء قيمها فوق هامات الحكام وسلطة رجال الدين, وتبقى المبادئ الديمقراطية حق مكتسب لكل إنسان ترسخها ثقافة عميقة ناتجة عن تراكم معرفي ووعي متجذر في أعماق الروح الإنسانية و ليست مكرمة أو هبة يهبها الحاكم كما يتوقع البعض.
ذكرني سلوك الناخب الفرنسي هذا بقصة غريبة عجيبة حدثت أثناء الانتخابات العراقية كان بطلها صديق علماني يدعو لقائمة مدنية علمانية في محافظة كانت كل قوائمها إسلامية وكان كل من رشح لتمثيلها في البرلمان من طائفة واحدة وكان صديقي كمن يسبح ضد التيار, ظل يدعو لقائمته العصماء بكل شجاعة حتى الساعات الأخيرة لغلق الحملات الدعائية؟ ولم يتوقف عن دعمه للقائمة رغم انتهاء الفترة الزمنية للدعاية, بل خرق القانون مستخدما كل الوسائل المتاحة له من هاتف نقال ومواقع للتواصل الاجتماعي للترويج لقائمته, حتى وصل به الحال إلى استخدام سيارته متنقلا بين بيت وأخر من بيوت الأصدقاء حتى آخر دقيقة قبل التصويت لإقناعهم بأنتخاب مرشحه, لكن صديقي هذا لم ينتخب القائمة التي كان يروج لها وأنتخب إحدى القوائم الطائفية بامتياز؟ وحين سألته عن السبب أجابني “حين وصلت للصندوق شعرت بعاطفة تدعوني لانتخاب أبناء طائفتي وعدم تركها لطائفة أخرى”, وكأن وباء “بعد ما ننطيها” قد أصاب كل العراقيين! أيقنت حينها أن الشعوب هي التي تصنع مشانقها بأيديها وتسوق ديمقراطيتها وحريتها نحو المقصلة.
شعوب تعاني من فصام في شخصيتها وازدواجية بكل تصرفاتها, تهتف بروحها ودمها لكل من يحكمها وتدعو له عند بارئها ثم ما تلبث أن تدعو عليه, فقد أحتار ربها في أمرها, أيخلصها من ظالمها أم يسخر عليها من لا يرحمها؟ شعوب قدرية لن تتذوق طعم الديمقراطية يوما طالما أنها لا تعي بأنها إذا أرادت الحياة يوما فلا بد أن يستجيب القدر لها.
أسئلة طالما أرقتني وأقَضَّتْ مضجعي, متى تقتنع تلك الشعوب بأن من يحكمها ليس سوى موظف في خدمتها, يسهر على مصالحها ويحقق أحلامها وإن فشل فلا مجال له في التجربة الفاشلة ذاتها مرات ومرات, أو ليس هناك من أخبرهم “إن المجرب لا يجرب”؟ متى تستوعب هذه الشعوب أن الدين سلوك وليس طقوسا، والإيمان علاقة محضة بين الإنسان وربه، وان المذهب ليس سوى انتماء روحي يخص الشخص ذاته، ولا يمكن تعميمه وفرضه على الآخرين، وأن فكرة الرمز الديني هي فكرة روحية رمزية لا علاقة لها بواقع الحياة، وإن الشعائر غيبيات لا علاقة لها بالسياسة؟ متى ستتعلم تلك الشعوب بأن السياسة والدين كالزيت والماء لا يمكن لهما أن يختلطا مهما تغيرت وتعددت طرق الخلط.