فوجئت وأنا اتابع عبر اليوتيوب حفلة “غنائيَّة راقصة”، أدتها فرقة الخشابة البصرية في بغداد، بالحجاب الذي ارتدته الراقصات، اعتقدت بداية أن الحجاب متعلق برقصة خاصَّة، لكن تبين غير ذلك، فقد كنَّ يرقصن على أنغام أغنية “هيه وهاي وهيه”!! لذلك بدى الحجاب الإسلامي عليهنَّ مضحكاً مبكياً بنفس الوق. فمن الواضح أنهن لم يرتدين هذا اللباس مختارات ومؤمنات بوجوبه، فهنَّ يعلمن بالتأكيد أن فتاوى رجال الدين تُحرِّم عليهن الغناء أمام الرجال الأجانب والرقص لهم قبل أن تحرم عليهنَّ “السفور”، ما يعني أنهنَّ غير معنيات بالالتزام الديني، لكن الازدواج والتخبط الذي يعاني منه راهننا الاجتماعي هو الذي اوقعهن بمثل هذا النفاق مضطرات وأجْبِرهن، بطريقة أو بأخرى، على تغطية رؤسهن؟
هذا الموضوع يكشف المستقبل الذي تسير باتجاهه محافظات الوسط والجنوب، فضلا عن المحافظات التي غطتها داعش بلونها الأسود، فهذه المحافظات تفقد مدنيتها تدريجياً، تفقد حريتها بالأحرى، ففي المدينة يجب أن يتصرف كل مواطن بالطريقة التي يحب، وأن يفعل ذلك وهو آمن ومطمئن بعد أن يلتزم بالقوانين المرعيَّة.
الحجاب على رؤوس راقصات فرقة الخشابة رسالة تحذير موجهة إلى القوى المعنية بالدفاع عن مدنيَّة مُدن العراق، فثمة عملية خنق لهذه المدنية تجري خلف الكواليس بخفَّة ودهاء وخبث، ثمة سياسيون يعتقدون أن وجودهم رهن بتسطيح وعي الناس، بإيهامهم ان دينهم مهدد، وأنهم مسؤولون عن رعاية هذا الدين لا تقديم الخدمات.
لا أحد يسأل عن سبب اختفاء دور السينما في محافظاتنا، لا أحد يتخوف من ضمور الحركة المسرحية هناك، لا أحد معني باختفاء النوادي العائلية، باختفاء المدارس الخاصة بتعليم الفنون والموسيقى والرقص، لا أحد يهتم بتراجع مستويات تمكين المرأة وبحقها في ممارسة مختلف الفنون والأنشطة الرياضيات. ليس هناك قلق كاف من عمليات التدمير الممنهج للمدينة العراقية، لا بل هناك تواطؤ وتملق محرجان تقوم بهما القوى العلمانية لإرضاء قوى الإسلام السياسي على حساب حقوق الناس وحرياتهم. لن يتراجع السياسيون المتأسلمون عن نهم السيطرة على الناس ما دام العلمانيون يخافون من التصريح بعلمانيتهم.
سيقول الكثيرون أن المحافظات التي أتحدث عنها تمارس حقها في الاختيار، وهذه نتائج الديمقراطية التي يجب احترامها، لكن ها هنا مصادرة مفضوحة، فكون الناس مسلمين لا يعني بالضرورة أنهم مع شيوع الطريقة الإسلامية في الحياة، بما تتضمنه من تضييق على الحريات وتدخل في خصوصيات المواطن بإجباره على سلوكيات قد لا يؤمن بجدواها أو نفعها. لم يأخذ أحد رأي سكان محافظات الوسط والجنوب، ذكوراً وإناثاً، بالحجاب الإسلامي، أو رأيهم في ارتياد دور السينما، أو تعلمهم الموسيقى وبقية الفنون، لأن المسؤول في العراق لا يعتني بالحقيقة بل بالتدليس والكذب والنفاق، هو معني بالمظاهر التي تغري بعض الناخبين، أما مرض النفاق الذي يستوطن وعيهم فليس مهماً عنده.
إذا كنّا نريد أن نعرف حقيقة ميول الناس ورغباتهم فعلينا ان نفحص “موبايلاتهم” عما تحتوي عليه من برامج وتطبيقات، وأن نعرف قائمة القنوات والبرامج التلفزيونية والمواقع الالكترونية التي يتابعونها، فهنا تتضح خياراتهم الحقيقية لأن الرقيب المخيف غائب وليسوا مضطرين إلى تملقه.
وقبل أن تغطي راقصات فرقة الخشابة رؤوسهن بالحجاب، كان هناك مسؤولون ومؤثرون قد غطوا وعيهم بغطاء سميك من النفاق والدجل والجهل، لذلك هم لا يعرفون الفرق بين اقناع الناس بفكرة ما وبين اجبارهم على اتباعها.