صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

قراءة في استراتيجيات أميركية جديدة

 

توصل عدد من الباحثين الاميركيين الى نتيجة مفادها صعوبة التفكير بأي مشروع أمريكي في الشرق الأوسط، فقد وصل الحال الى نهاية مأساوية، إذ على الرغم من كل المعطيات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والعسكرية والثقافية التي تتمتع بها الولايات المتحدة التي تجعل منها القوة الأعظم في العالم، إلا أن ذلك لا يعني أنها تتعامل مع العالم بشكل مطلق وتفعل ما تريد وما تشاء.

 

سأحاول في هذا المقال تقديم قراءة في استراتيجية التوازن خارج المجال الأميركي والتي تقدم بها كل من الباحثين الاميركيين (جون ميرشايمر) و(ستيفن والت)، لاسيما وان غايتهما هي العمل على ضرورة بقاء الولايات المتحدة الأمريكية القوة الأكثر تفوقاً خارج مجالها الإقليمي، وامتداد ذلك التفوق ليصل الى مرحلة التفوق الأمريكي عالمياً. ومن خلال ذلك نحاول ان نفهم تأثير ذلك على مستقبل العراق والمنطقة في فترة ما بعد داعش.

 

يرى كل من ميرشايمر و والت أن الهيمنة الليبرالية التي أخذت سيادتها تتعاظم لدى الولايات المتحدة أفرزت نتائج أساءت للولايات المتحدة، ولمكانتها في النظام العالمي، خصوصاً وأنها سمحت لدول آسيوية بامتلاك أسلحة نووية كما فسحت المجال أمام الصين مثلا لتلعب دوراً غير مسموح لها به من قبل, كما فسحت المجال واسعا أمام روسيا لكي تستعيد نشاطها إقليميا.

 

القتال الدائر في العراق وأفغانستان بلا جدوى واضحة, سيادة الفوضى في الدول التي للولايات المتحدة مصالح كبرى معها كدول الشرق الأوسط، وهذا ما أدى إلى بروز ظاهرة داعش، كما يشير الواقعيان أعلاه إلى العديد من الأزمات والنزاعات التي أدت إلى انتكاسة الولايات المتحدة.

 

وهما يريان أن الهيمنة الليبرالية التي اتبعها الجمهوريون والديمقراطيون لسنوات عديدة أدت إلى تشويش المشهد وغياب التصور الواقعي لما يجري خارج الحدود الأمريكية, وبذلك يطرحان فكرة مغايرة لما كانت متبعة الولايات المتحدة، وهذه الفكرة قائمة على تشكيل عدد من التوازنات في المناطق التي تحظى باهتمام الولايات المتحدة, فهما يريان انهُ بدلا من قيام الولايات المتحدة بتوفير الضمانات الأمنية الكاملة من خلال التواجد العسكري المستمر في هذه المناطق العمل على دعم البلدان للقيام بأدوار مختلفة لصالح الولايات المتحدة يكون من خلال الوقوف بوجه البلدان والقوى الإقليمية الصاعدة، وبالتالي عرقلة مساعيهم القائمة على لعب ادوار تحول دون استمرار الهيمنة الأمريكية، وهما يريان أن لهذه الاستراتيجية بُعدين:

 

الأول: خارجي، إذ أن ذلك سيحقق للولايات المتحدة الانفراد بالريادة عالمياً.

 

ثانياً: داخلي، ان هذه الإستراتيجية ستعمل على طمأنة الداخل الأمريكي لسنواتِ طوال, وبحسب الواقعيين أعلاه فان هناك ثلاث مناطق عالميا تُشغل الاهتمام الأمريكي وهذه المناطق هي أوروبا وشرق أسيا والخليج, في حال عدم صعود أي مهيمن إقليمي في إحدى الأقاليم الجغرافية الثلاث في الأفق فان التواجد العسكري تنتفي الحاجة إليه, ولكن في حال ظهور مهيمن إقليمي فأن التواجد العسكري يكون ضروري ليأخذ دور الدعم والمساندة.

 

بالتالي، فان هذه الإستراتيجية تسعى للبقاء بعيدا عن المجال الخارجي مع التهيؤ الدائم للتدخل في حال تعارض ذلك مع المصالح الأمريكية، وبالتالي فان ميرشايمر و والت يريان أن إستراتيجية التوازن خارج المجال ستُفرز نتائج كبيرة ومغايرة لما كانت سائرة عليه الهيمنة الليبرالية ابرز هذه النتائج هي تقليص حجم الإنفاق العسكري والمالي, العمل على تشجيع الاستثمار والاستهلاك, انعكاسها الواضح سيكون على الداخل الأمريكي من خلال تقليل الخطورة على حياة الشعب الأمريكي، بالإضافة إلى تحجيم ظاهرة الإرهاب اكبر قدر ممكن.

 

لكن قبل الشروع في الاتفاق أو الاختلاف مع فكرة التوازن خارج المجال علينا أن نسلط الضوء على واقع و بيئة السياسة الدولية والذي دفع المفكرين سابقي الذكر لطرح هذه الفكرة خصوصا وان كلاهما يتفقان على ثوابت وأسس فكرية ذات منظور واقعي في السياسة الدولية وهذا ما جعلهما ينتميان لتيار فكري واحد ألا وهو الواقعية الكلاسيكية الجديدة , وان لستيفن والت رؤية في تعامل الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط كانت سابقة لرؤية التوازن خارج المجال الإقليمي والتي يرى فيها إن الوقت قد حان لكي تغادر الولايات المتحدة الشرق الأوسط لأنها لا تستطيع العمل على إنجاح أي مشروع في هذه المنطقة.

 

إن تفكك الاتحاد السوفيتي في نهاية عام 1991 وانتهاء الحرب الباردة وسلسلة التحولات التي شهدها العالم, أتاحت للولايات المتحدة إمكانية التربع على قمة الهرم السياسي الدولي دون أن تنافسها على موقع القيادة أي قوة عظمى أخرى, لذا فأن الموازين والمتغيرات التي تزامنت مع موجة التحولات التي شهدها النظام الدولي جاءت وعلى وفق المرتكزات التي وضعتها الولايات المتحدة لقيادة العالم, وهكذا بدأت الولايات المتحدة انطلاقا من موقعها بممارسة توسيع دائرة نفوذها، مما تطلب الاضطلاع بدور عظيم على المسرح الدولي, وبذلك بدأت باستثمار تفوقها العالمي، وذلك من خلال ممارسة دور القوة المهيمنة عالميا من خلال سعيها إلى إعادة تنظيم العالم على وفق صيغ وتوازنات جديدة تؤمن لها الزعامة العالمية, لكن جاءت أحداث 11/أيلول/2001 كمحطة فاصلة في تاريخ السياسة الدولية, فالإحداث التي تلت هذه المحطة الفاصلة أفرزت معادلات ومتغيرات وأوضاع دولية جديدة قلبت التوازنات وأعادت ترتيب القضايا العالمية على وفق المعايير والمصالح التي فرضتها المستجدات الجديدة والتي تمثلت بالحرب التي قادها المحافظون الجُدد (الجمهوريون) في أفغانستان والعراق تحت ذريعة الإرهاب, تنامي دور بعض القوى في الشرق الأوسط مثل تركيا وإيران خصوصاً وان الأخيرة أخذت مساعيها النووية تتعاظم والذي سيؤثر حتماً على المصالح الأمريكية في المنطقة هذا بالإضافة إلى تصاعد نبرة الخطاب الإسلامي الراديكالي خصوصا بعد قيام ما يُسمى بالربيع العربي وتشكل تنظيم داعش الإرهابي وفق رؤى وخطط إقليمية.. الخ من الأزمات والصراعات الدائرة في مناطق متعددة من العالم.

 

وبالتالي، فان المعطيات انفه الذكر شكلت وفق رؤية (ميرشايمر و والت) التحديات التي ستعيد رسم معالم السياسة الدولية والتي يمكن تلخيصها في النقاط الآتية:

 

1- التحدي الذي واجهته الولايات المتحدة والمتمثل في الإرهاب الدولي.

 

2- ازدياد الخلافات مابين الولايات المتحدة والقوى العظمى الأخرى في مواضيع وقضايا سياسية واقتصادية.

 

3- النزوع المضطرد لاستخدام القوة من قبل الولايات المتحدة في سياستها الخارجية.

 

4- الرفض المتنامي للمشروع الاقتصادي النيو ليبرالي.

 

5- انتشار الفوضى على صعيد واسع في العالم واندلاع متكرر للحروب .

 

إن المفكرين أعلاه يعزوان كل ذلك إلى سوء الإدارة الأمريكية في توظيف الهيمنة الليبرالية، وخصوصا في ظل إدارة الرئيسين (بيل كلينتون) و(باراك اوباما)، اذ يرى والت انه يتعين على الولايات المتحدة وكما ذكرنا ترك الشرق الأوسط منذ حرب الخليج الثانية وتركه للعراق وإيران ليحددان مصيره كذلك لا يتوجب على إدارة اوباما أن تساعد على إنهاء حكم الرئيس الليبي (معمر القذافي) .

 

إن الأخطاء والهفوات التي يذكرها كل من ميرشايمر و والت التي وقعت بها الإدارة الأمريكية لا تعني تماماً فشل الليبرالية ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا أن العالم وبوتيرة متسارعة بدأ يتجه نحو الليبرالية الاقتصادية، وبدأت تُتخذ خطوات كبيرة وعظيمة وبفترات قياسية للالتحاق بركب الاقتصاد النيو ليبرالي, ولهذا كان يُفترض التمييز مابين واقع السياسات الأمريكية في ظل رؤى وخطط الديمقراطيين وما بين الليبرالية كنظام سياسي اقتصادي يُشيع ثقافة السلام والتعاون والتعايش مابين الشعوب وكذلك الاندماج والتعاون اقتصاديا ولهذا كان فوكوياما صائبا عندما وصف مرحلة نجاح الليبرالية بمرحلة نهاية التاريخ بلا منازع او منافس.

 

الجانب الآخر الذي نريد تسليط الضوء عليه، هو أن الولايات المتحدة وعلى الرغم من أن المعطيات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والعسكرية والثقافية التي تتمتع بها وتجعل منها القوة الأعظم في العالم، إلا أن ذلك لا يعني أن تتعامل مع العالم بشكل مطلق، وتفعل ما تشاء, بمعنى ان التوازن الذي يوجه به ميرشايمر وزميله، الإدارة الأمريكية وفق الآليات الموضوعة لم يكن بذات المرونة التي يُصورانها، فربما تمتلك الولايات المتحدة الآليات والأدوات التي تستطيع من خلالها تطبيق استراتيجية التوازن في أوروبا، وفي شمال شرق آسيا المنطقتين الصناعيتين بحسب ميرشايمر و والت، وبحكم العديد من الاعتبارات، الا ان ذلك لا يعني ان الولايات المتحدة ستنجح بتطبيق هذه الاستراتيجية في منطقة الخليج التي تُزود العالم بـ30% من النفط الخام.

 

خصوصا وان والت يعترف بمقال له جاء تحت عنوان (رؤية أمريكية للخروج الآمن من الشرق الأوسط)، والتي توصل من خلالها لنتيجة مفادها ان من الصعب التفكير في أي مشروع أمريكي في الشرق الأوسط والذي بحسبه وصل الى نهاية مأساوية, وهذا دليل على ان هناك إدراكا مسبقا لدى والت بأن الخليج الذي يشكل المحور الأساس في الشرق الأوسط أصبح من الصعوبة التعامل معه، ولو افترضنا وبحسب الاستراتيجية التي نحن بصددها استطاعت إيجاد حلفاء من الممكن دعمهم لعرقلة قوى صاعدة مثل تركيا أو السعودية أو إيران فمثلا هل باستطاعة الكويت أو الأردن عرقلة صعود السعودية أو تركيا؟ ربما يكون سيناريو عسيرا في المستقبل المنظور.

 

 

كاتب وباحث في العلاقات الدولية

 

أقرأ أيضا