صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

متآمرون على أنفسنا

 

جهود حثيثة وكفاح تعبوي منقطع النظير بين “علمانيين وإسلاميين”، “ملحدين ودينيين”. الناظر لحال المجتمع العراقي وللإعلام المرئي والمسموع سيصل لنتيجة مفادها: أن العراق على وشك ثورة تنويرية كبيرة، ومخاض جدليّ وعلى أعتاب وثبة حداثية موسّعة.

 

فبينما يشهق العراق أنفاسه الأخيرة في بالوعة المحاصصة الشيعية السنية الكردية، ويتعرّض لأكبر غزوة في تاريخه المعاصر، من قبل الداخل والخارج، يحتدم النقاش على قدم وساق حول العَلمانية من جهة والإلحاد والدين من جهة أخرى، وهذه الأخيرة هي النكتة المحببة لكلا الطرفين؛ يشمّر بعض الإسلاميين عن سواعدهم للذود عن حمى الإسلام،عن طريق ضرب العَلمانية ضربة لا تقوم لها قائمة من بعدها.

 

وبهذا التبسيط المخجل يتصورون أنهم سيحلون مشاكلهم دفعة واحدة. إن قوى الإسلام السياسي (التقليعة التي تستهوي البعض) في عالم آخر وواقع آخر، ولكي تبتعد عن واقعها البائس تمعن في تسميم جماهيرها بهذا اللغو الفارغ.

 

يتكتل بعض (الحداثيون) من جانب آخر، ليعلنوا بثاقب نظرهم أن العَلمانية هي الراهن، هي التي تمثل الواقع، هي الحل!، وستُحَل مشاكلنا التي تتحطم لها الأفئدة النابعة من غياب العَلمانية، وينبغي على مشايخ الخليج أن يشهقوا و(يخنزروا) لأنهم أتخموا شعوبهم بمعزل عن العلمانية. ومؤكد أن هذا الرد لمن يعتقد بإرتباط العَلمانية بالرفاه الاقتصادي.

 

بين ليلة وضحاها يترك العراقيون جيوشهم الاحتياطية من الأرامل، المطلقات، المتسولين، مدن الحواسم، الأميّة، الجيوش الأخرى التي تقع على حافّة الفقر، غياب الأمن، تردي الخدمات، ضعف الدولة، سيادة القوى المحافظة وانعكاسها على المشهد السياسي، تفشّي ظاهرة المحسوبية، الاختلاسات، الفساد الإداري والاجتماعي، بروز الهويات الفرعية، خراب البنية التحتية، شيوع ظاهرة المحاصصة في ثقافتنا الاجتماعية، وتحوّل جامعاتنا إلى مطابع للشهادات.

 

كل هذا يمكنه أن يتبخّر، مثلما بخّر صدام حسين والدي في حامض التيزاب.

 

ومن باب الهروب والانتكاس لابد أن نثير حواراً حضارياً متمدناً، يعكس توجهاتنا الثقافية الراقية، وهو حوار الإلحاد والدين؟!!.

 

لا يوجد أبسط عطّار وسائق تاكسي، وبائع بالونات، لايعرف ضرورة العَلمانية كهويّة للدولة. والعَلمانية لا تحتاج إلى وعي صرف منزوع عن سياقه التاريخي, فهو في النهاية تحدده البنية الاجتماعية لهذا البلد أو ذاك.

 

في ذروة الحروب الدينية في أوروبا، في ذروة الثورة الأميركية، في ذروة الثورة الفرنسية، كانت هناك مقدمات عنيفة راح ضحياتها آلاف الضحايا، ومرّت بمخاضات عسيرة قرابة قرن من الزمن،حتى تمكّنت في نهاية المطاف من اختيار النظام السياسي المناسب.

 

فنحن من هذه الناحية لسنا سوى مقلدين نأخذ الأفكار، ونطور أذهاننا، لكنّنا وبذات الوقت نعمي أنظارنا عن الواقع: تتطور أذهاننا ولا يتطور واقعنا. والدليل على ذلك هو هروبنا من واقعنا البائس لنتحاور حول وجود الله من عدمه، أو الحوار عن ضرورة تشكيل دولة عَلمانية.

 

ولا بأس بالتذكير إن هذه الكلمات ليست دعوى للسكوت، وإنما دعوى للنظر في واقعنا الاجتماعي المتردي، ففي النهاية تحكمنا الضرورة أن نرتب أولوياتنا، ونفهم حقيقة الصراع، منبع الصراع. وصراعنا الحقيقيّ يكمن في نظام المحاصصة سيئ الصيت، الذي ينخرنا ببرود كما لو أننا ميتون إلى إشعار آخر.

 

أقرأ أيضا