صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

معركتنا في السماء

 

نعم، معركتنا في السماء أيضاً وليست على الأرض فقط، كما يروج مثقفون وناشطون، وهي لن تكون كذلك ما دام هناك من يُحوِّل الدين إلى تاجٍ يلبسه وصولجان يمسكه ويهدد بهما من يحارب فساده ومختلف جرائمه.

 

وفي بلد كالعراق لوَّث فاسدوه الدين واستطاعوا ان يُقنعوا أغلبيَّة شعبه بأن سياستهم تَخْتَصِر الدين وأن الدين مُخْتَصَرٌ في سياستهم، وتمكنوا عبر هذا التدليس من دفع الناس إلى إعادة انتخابهم بعد كل دورة فساد وفشل، في مثل هكذا بلد لا يعود ممكنا التفكيك بين نقد الدين وبين مهاجمة الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها بعض الأحزاب الدينية باسمه وتحت غطاءه.

 

إذن فالمقصود بأن المعركة في السماء، هو أنها معركة ضد التراث الديني المزيف الذي يقول ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ بأن الأموال العامَّة مجهولة المالك، ويجوز نهبها والاستيلاء عليها، وهو ما تسبب بعمليات نهب أموال الدولة التي حصلت سنة ٢٠٠٣، ويتسبب إلى الآن بالاستيلاء على أراضي الدولة وتوزيعها خارج إطار القانون. ثم ومن جهة أخرى فإن المقصود بأن المعركة في السماء هو أنها موجهة بالضد من التراث “السماوي” الذي يُصنِّف الجرائم بحسب مرتكبيها، فتكون عنده الجرائم سوداء وبيضاء، الأمر الذي يُوفِّر لبعض المجرمين غطاء شرعياً يبرر افعالهم ويحميهم من العقوبة. وهو التراث نفسه الذي يُميّز بين مواطن نجس وآخر طاهر، بين مواطن مؤمن وآخر كافر، وهذا تمييز يُشوِّه وِحْدَة الشعب ويهتك المواطنة.

 

من جهة ثالثة فإن المعركة في السماء لأن التراث المشوه للدين يُعرقل تطبيق القانون بسبب القدسية التي يُضفيها على بعض الساسة، ما يجعلهم خارج طائلته. فالثقافة الدينية ثقافة “ورعيَّة” تتقاطع مع ثقافة القانون الـ”ردعيَّة” بحسب تصنيف عالم الاجتماع العراقي الاستاذ الدكتور متعب مناف، الذي يَفْصِل بين ما يؤسس له القانون من ردع لا يُفرق بين مواطن وآخر، وبين ما يؤسس له الدين من ورع يُصَنِف الناس إلى ورعين لا يخطئون ولا يُحاسَبون، وإلى عامَّة يخطئون ويحاسبون، وهذه أحد الأسباب التي تقف وراء حماية منظومة الفساد، فهناك دائماً، “فاسد/ مجرم” محمي لأنه يحظى بالتقديس، أو محمي لأنه يحتمي بمن يحظى بالتقديس.

 

وقبل كل ذلك وبعده، المعركة في السماء وليست على الأرض لأننا نعيش في وقت ظهرت فيه عصابات غاية في التوحش والهمجيَّة ادَّعت انتماءها إلى الدين وأوغلت في الناس قتلا وسبيا واغتصاباً وتشريداً، الأمر الذي يوجب على كل ذي عقل يمتلك أدوات النقد أن يتوجه إلى التراث الديني، ليستأصل الأورام الخبيثة الموجودة فيه والتي أنتجت كل هذا التوحش.

 

على أساس ما تقدم لا يعود ممكناً أن نَدْفِن رؤوسنا في الرمال، ومهما كانت الأسباب، لنقول بأن معركتنا أرضيَّة وليست سماويَّة، لأننا بذلك نُشوش على عمليات نقد الدين الهادفة، ونُظهرها وكأنها تَصْدُر عن شريحة تسكن أبراجاً عاجيَّة ولا هم لها غير التشويش على الدين والانتقاص منه، وأن النقد الهادف يجب أن يتوجه إلى الجريمة والفساد دون أن يَمَسَّ الدين، مع أننا جميعاً نعرف بأن ذلك غير ممكن، لأن الفساد محمي بالمحاصصة والمحاصصة متسترة بالدين لذلك هي تشطر المجتمع إلى شريحتين متعاديتين، لا يمكن جمعهما على مائدة وطن واحد قبل مواجهة التراث الديني بمعركة شجاعة يكون ميدانها في السماء وعلى الأرض وليس على الأرض فقط.

أقرأ أيضا