الأشباح أغرمت ببيتي: جانيت ونترسون عن الاستحواذ والروح العالية وما بعد الوجود البشري

إيفا وايزمان

ترجمة صالح الرزوق

تبدأ بعض قصص الأشباح من ليلة مثلجة في قلعة مسكونة، وبعضها الآخر يبدأ مع جانيت ونترسون وهي تدخل إلى مطعم في شرق لندن أثناء يوم حار، وتطلب كأسين من الشراب الغازي الوردي. وطيلة فترة ما بعد الظهيرة تتكلم عن الرعب، والطواويس والماضي. وتقودني بجولة في أرجاء بيتها المسكون، وتناقش معي نهاية العالم بطريقة تبدو كما لو أنها في الحقيقة شيء مهيب. وحينما تقدمت بنا الأمسية كنت مضطربة ومفتونة معا – وربما تغيرت. 

كتابها الجديد “ليلة بجوار النهر”، هو الثالث والعشرون، بعد “البرتقال ليس الفاكهة الوحيدة”. وهو مجموعة من 13 قصة أشباح. بعضها قوطي، وبعضها يكتشف التكنولوجيا، وغيرها غير سردي، ويتابع الأفكار الشخصية التي استحوذت عليها. ولكن ما لفت انتباهي حقا ما يلي: لا أحد كان خائفا من الفواجع والموت، وهما في جوهر كل قصة أشباح، مع ذلك نادرا ما تطرقت له القصص. وحين كانت تكتبها لم تهمل ضوابط قصص الأشباح – فقد دعت القارئ إلى غرفتها ولكن حرصت على إبعاد الجدران. قالت: “كما لو أنك تمارسين اليوغا وتعتقدين أنه لا يمكنك أن تذهبي لمسافة أبعد. ثم يدفعك المدرب قليلا؟. بعدئذ ينفتح المدى”. 

طلبنا مع المشروب الوردي الغازي غداء شهيا وكاملا على طاولة مغطاة بمفرش أبيض. وهي من تبرعت بالدفع. ألحت. لأنه بوسعها ذلك، ولأنها تحب أن تفعل. قالت: “كنت مهتمة بالكتابة عن طريقة إدارة ما لا يمكن شرحه، وهو غالبا مشاعرنا العميقة عن الفاجع والفقدان والألم وكسر القلب، وهذه الأمور التي يعارضها أي كائن بشري، كما تعلمين، إنه بلد شكسبير المجهول، ‘والذي لم يرجع منه بعد أن تخطى حدوده أي رحالة'”. تناولت لقمة كبيرة من لحم العجل الطازج، وأضافت: “نحن كبشر نحاول أن نتجاوز حدود طاقتنا. وهذه هي الحدود التي لا يسعنا تجاوزها”.  

في “البرتقال ليست هي الفاكهة الوحيدة” (والتي ضمنت لها مساحة استثنائية بين مشاهير الكتاب)، ولاحقا، في مذكراتها “لماذا تكوني سعيدة وبمقدورك أن تكوني طبيعية؟” (وهو السؤال الذي سألته أمها بالتبني حينما أخبرتها جانيت ابنة الــ 15 عاما أنها مغرمة بامرأة)، كتبت ونترسون عن نشأتها الدينية العدوانية وطريقها الشائك لعالم الكهانة. ومع أن الدين بعيد عنها حاليا، غالبا ما تتأمل ما خلفها بمرآة السائق. تقول: “كان الدين أول بداية، ولكن الحاجز الذي قطع الطريق كان الموت”. والدين يؤكد أن الموت وهم، وفي بعض قصصها الجديدة، تتساءل هل كان المتدينون من أمثال أمها على حق. مضغنا طعامنا ونحن نفكر: “ماذا يعني ذلك إذا لم يعد للموت وجود؟”. ثم تقول: “وجهة نظري أن السابيناز البشري قد بلغ حدوده”. توقفت عن المضغ. تابعت: “حان الوقت لنتأمل. أعتقد أن مستقبل الإنسان المتطور سيكون جيدا، وأعتقد أن مستقبل ما بعد الإنسانية سيكون أفضل”. 

جلس أحد الحاضرين في المطعم بفم مفتوح وهو يصغي، وشوكة تحمل البندورة تراوح تحت فمه. حينما تنظر إلى هذه الأفكار على أنها “الروح”، أو النفس، كما هي تفعل، بانتظام، وتعيد تركيب أشباحها القديمة وما يمكن أن يستجد من أشباح لاحقا، تتساءل فجأة، هل نحن نروي الحكاية بالمقلوب؟. والسؤال الذي يسأله الجميع، وأصبح الآن بمنتهى البساطة: هل الوعي مضطر ليكون مادة؟. الدين يرد دائما بالنفي. ولكن العلم يرد بالإيجاب. ولكن العلم حاليا متردد ويفكر بالمشكلة. 

تابعت بهدوء وكأنها حالمة، ودخلت في مستقبل الذكاء الصناعي، الكائنات غير البيولوجية التي لا تحد الحواجز الجسمانية من طاقاتها، ولكنها توقفت، لتتذكر أن هذا المستقبل محكوم بالمليارديرات، ولسوء الحظ، ليس بجانيت ونترسون الحاملة للقب CBE (سيدة ذات إنجازات عظيمة في الإمبراطورية البريطانية). وهذه مشكلة. تقول: “قد يكون ما فوق الشعر مكانا طيبا حقا للناس ليفكروا بهوياتهم، ويجربوا شخصياتهم الجديدة. وهذا شيء ذو جاذبية لي دائما باعتبار أنني كاتبة خيال فني. وأنه بمقدوري أن أتقمص هويات الآخرين. وهو ما يمنحك فهما جديدا لنفسك”. 

ثم تتساءل: “هل هذا طريق يقودنا إلى ما بعد البشرية، وليس مجرد نهاية، بل بداية جديدة؟. نحن نوع قابل للتطور. وهذا ممكن”. تتنحنح باعتزاز. هل هذا يرعبها. تقول: “على الإطلاق”.

حينما بلغت ونترسون الخامسة، كانت تقرأ لجدتها، وهي امرأة طريحة الفراش، ولا يمكنها الكلام بسبب سرطان الحنجرة. وفي صباح أحد الأيام تذكرت نهوضها من فراشها، وذهابها الى النافذة المشرفة على الحديقة، وقولها: “انظري إلى ملكة الدانمارك”. تخبطت ونترسون بخطواتها لتنضم لها – لمست شعرها، ثم مشت عبر النافذة وحتى حوض الزهور. في تلك اللحظة رن الهاتف. هبطت أمها على السلالم لترد، لكن كان الخط لا يعمل. وحينما عادت مع ونترسون إلى سرير الجدة، لاحظتا أنها ميتة. وتلك كانت أول تجربة غير طبيعية مرت بها. 

بعد النظر في لقاءات سابقة، صدمتني كمية النقد الذي انهال عليها في التسعينيات، في ذروة شهرتها، حينما كانت حياتها موضوعا للمتابعة أكثر من كتبها. في “أقراص ديزرت آيلاند” التي تعود لعام 1994، تكرر سو لولي بكثير من التشكيك ادعاءات ونترسون أنها وريثة أدبية مباشرة لإرث فرجينيا وولف، حتى أنها رشحت نفسها لتكون كاتبة ذلك العام، وقد تساءلت بلهجة هجومية: “كيف يمكنك أن تفعلي ذلك؟”. فردت ونترسون ببساطة – لأنها تؤمن بذلك. ولكن أصبحت الاتهامات الرعناء جزءا من تاريخها وسيرتها. واليوم تقول: ” أنا أعرف إغراء رواية قصة ناجحة. ولكن أحيانا تكون مؤلمة وعسيرة”. 

تتذكر أنها كانت محتارة بسبب الاستقبال السلبي الذي تلقته. قالت: “اعتقدت أنه يمكنك أن تفصحي عما تؤمنين أنه حقيقي”. وتعتقد أن الشابات، في هذه الأيام، يفهمن البطريركية بطريقة مختلفة عنها. “لا يقسمن العالم بشكل منتظم. ولم أدرك الأشياء الكبيرة التي كانت غريبة عني في كل الأحوال”. وتعلمت في النهاية كيف تتعامل مع النقد، “لأنني فهمت ذلك بعدة طرق. وأنني الشخص الذي سقط وحسب. أنا التي كانت واقفة، ولذلك يمكن بسهولة إطلاق النار علي. وهذا وحده جعلني أجن لفترة طويلة”. 

وبصوت نافر روت لي أسطورة سيزيف، وفيها عدة أشياء تقود إلى الجنون. لدينا مسافة بين الحالتين. “وهذه المسافة بين الحالتين هي مجالي. أحاول أن أعيش فيها بكرامتي، حياة ناجحة كامرأة مثلية، من الطبقة العاملة، وأن أفتخر بذلك – أما العداوة.. كان ينتابني حلم وفيه أرى نفسي وأنا أتزلج بسرعة على سفح هابط ثم تتباعد زلاجتي. وهذا ماحصل”. فكرت لحظة خاطفة، ورشفت من شرابها. وتابعت: “وربما أنا محظوظة بسبب تربيتي الجنونية”، وكانت تعني أنها طفلة متبناة رعاها أبوان إنجيليان كانا يحبسانها في حفرة الفحم ويجربان طرد الأرواح الشريرة منها كلما وقعت بغرام فتاة أخرى، وانتهى بها ذلك لأن تعيش حياتها بعد البلوغ في السيارات والخيام قبل أن تقبلها جامعة أكسفورد. “وهو ما وفر لي الحماية”. كيف؟. “مع أنني كنت أتوقع أن يساء فهمي”.

في هذا الصيف ذهبت إلى مهرجان غلاينديبورن واستمتعت جدا حينما توجهت إلى المرحاض ولاحظت أن لديهم دورة مياه محايدة جنسيا. “لم أشاهد أحدا يطرف بجفونه. لذلك لا تقولوا إن هذا لن ينجح في مكان آخر. علينا جميعا أن نترفع على أنفسنا وندرك أن الأحوال تتبدل”. منذ عدة عقود تكتب ونترسون عن الجندر، وحدوده واحتمالاته، وبطريقة راديكالية وببعض البهجة. ورأت نفسها في عصر “حروب الجندر” والحيرة تغلفها. “لازلت أبحث عن طريقة للتفكير بالموضوع. دون أن أستعمل ما أعرف لشرح ما لا أعرف، وهذا فخ حقيقي نكبر معه بالعمر”. وهي تجلس هناك على المرحاض، فكرت باحتمالات مستقبل ما بعد البشرية “وتبادر إلى ذهني ‘أي جسم يجب أن أختار؟'”. وخطر لها، حسنا، إنها تحب أن تكون صغيرة، ولكن تحب أن تكون أقوى بأربع أضعاف. وتحب أيضا أن تكون أذناها الصغيرتان مدببتين وربما بقدمين مسحورتين. وذكرتني أن العفاريت. الأقزام. وكل هذه الأشياء عبرت عن ذاتها عبر التاريخ، وكذلك الأشباح. “الأمر السخيف الذي نقوم به، كما أرى، أن نلغي الأشياء التي لا يسعنا تفسيرها، أو التي لا نعرف كيف نقيمها”. وكما تؤمن زوجتها السابقة المحللة النفسية سوزي أورباك: “ربما هذه الظاهرة تدل على اضطراب في الدماغ. ولكن من جهة مقابلة جرب الكثير من الناس أشياء وجدوا أنها غريبة جدا”. هناك ارتفاع ملحوظ في عدد بلاغات حالات الاستحواذ خلال فترة تفشي الوباء. وهذا بالنسبة لونترسون “ربما يفرض علينا أن نحجز أنفسنا  ونلزم الهدوء ونشاهد الأشباح. تعالوا إلى بيتي لتروا لماذا وجدوا أنه جذاب لهم. إنهم يحبونه”. 

ثم دفعت الفاتورة، وتمشينا 50 م، أو قرابة ذلك حتى بلغنا بيتها اللندني، وهو شرفة جورجية فوق متجر في منطقة سبايتل فيلد، ولدى وصولنا، طلبت السلالم المائلة. قالت للأشباح: “تحياتي. لقد عدت”.

في إحدى الليالي، بعد أن انتقلت ونترسون إلى البيت، أيقظها صوت خطوات مسموعة تأتي من أسفل السلالم الخشبية وتقترب من غرفتها. بعد أن عادت للنوم، شعرت بيد باردة تقيس نبضها. قالت بصوت مرتفع: “أنا حية”. وتبع ذلك نسمة هواء قبل أن تتراجع الخطوات على السلالم. وتلك كانت تجربتها فوق الطبيعية الثانية. كتبت ونترسون: “نقول عن ذلك الضوء المرئي. نحن لا نرى موجات الراديو، ولا أشعة غاما، ولا أشعة إكس، ولا الضوء فوق البنفسجي. ولا نشعر بخسارتنا له. خطأنا أننا أعدنا تسمية الضوء المرئي – ما يمكننا رؤيته – وقلنا عنه إنه الواقع”. 

صديقتها المحبوبة، الكاتبة الراحل روث ريندل، لم تؤمن بالأشباح حتى سمعت في إحدى الليالي وفي فندق كوبي، تنفس امرأة تلد. “إن لم تمري بتجربة من هذا النوع، ثم أصبحت أمامها، ستبدلين رأيك. أو على الأقل ستفكرين بالموضوع”. وبعد وفاة ريندل بقليل فكرت ونترسون بها وهي تفتح جهازها المحمول. وللحظة عابرة لمع خيال ريندل بوجهها المتبسم على الشاشة. وعرضت صورة علي كانت تخزنها في هاتفها – زوج من الطواويس يقبعان في حديقتها في منطقة كوتسولدز. وفكرت أن تأكلهما، ولكن سمعت أن لحم الطاووس قاس، بالإضافة “لعدم الرغبة بقتلهما، فهما بطيئان، وهذا يجعل قتلهما سهلا”. وخيلاء الطاووس يقارن بعقله الصغير وهو ما دفعها للتفكير بدماغ البشر وكيف تعلمنا أن نتعامل مع القدرات العقلية من الخارج. “لا أعتقد أن التكنولوجيا عدو لنا. هذا يشبه عدم السيطرة على حصانك. وكل ما عليك أن تركليه ليعدو بسرعة. وإذا أصابك الخوف ستفلت الأمور من يدك. ولذلك أعتقد علينا أن نركلها ونحصل على هذا”. وتعني الذكاء الصناعي، فهو ترياق ضد الموت، هو المستقبل، “وفرصتنا المثالية. هذه هي رحلتنا في سلم التطور، سواء رغبنا بها أم لا”. وهي تجلس بين كتبها عن الشعر، وتقلب الصفحات المصورة التي تعرض طواويس، تساءلت إلى ماذا ترمز في الأدب، وبسرعة أجابت “الخلود”. 

في الأمسية التي سبقت إرسال ونترسون بقية الصفحات من عملها للناشر، سمعت خبطة قوية على ظهر سريرها، وتبعها صخب هائل جاء من زاوية الغرفة. صاحت تقول للبيت إنها بحاجة إلى ليلة نوم عميق. أعقب ذلك صمت قالت عنه إنه “ساخط”. والآن يتابع جهاز الراديو العمل تلقائيا في المطبخ، ولكن ليس قبل 8 صباحا، وكما تقول، هذا شيء تحمدهم عليه. 

مع اقتراب المساء تجولت في بيتها، واستمعت لأصوات مفاصل الأبواب، بحذر، أو خبطات الأقدام على الأرض، ولكن الشمس والشراب، وضجيج السياح في الخارج، تسبب لي بالشرود. عدت إلى زاوية الغرفة وكانت نار الموقد باردة. قالت ونترسون” الأموات لا يخيفونني”. تنهدت وأضافت: “الحياة هي ما يرعبني. وأنا لا أحسب حساب الأشباح – وأفضل إنفاق الليل في بيت مسكون على مصاحبة أندرو تايت في رومانيا”. ياىلهؤلاء الرجال، تشعر باليأس من هؤلاء الرجال، فهم يختطفون اهتمامنا، ويستعمرون التكنولوجيا، ويحرقون العالم بنيرانهم. “ولكن في النهاية لماذا نحن مهووسون بذلك؟. لا يمكن للمخلوقات البشرية أن تكتفي بذاتها، كما أفترض، ولذلك الموت أسهل دائما. أي شيء أبسط من أن تحمل نفسك وتجبرها على المتابعة”. وأملت أنه بمقدورنا صناعة المستقبل الذي يتضمن هذه المخلوقات وهذا الكوكب، دون أن نكون محدودين بشموليته غير الكاملة. ولكن “أنا سعيدة جدا أنني أحيا في هذا العصر”.

مر تقريبا 40 عاما على صدور “البرتقال ليس الفاكهة الوحيدة”. وبلغت ونترسون الآن 64 عاما، وبدأت تنظر نحو الخلف وتفكر بال 40 عاما أو ما قارب ذلك، وهي الفترة التي أعقبت كتابة أول رواياتها، وهي تتساءل إن استفادت من حياتها القلقة بشكل جيد، وإن أنجزت العمل الذي أرادت أن تقوم به، أو أنها قامت بأعمال خير وبر. “وهذا يكفيني. ولذلك أنا لست خائفة من مواجهة الموت. لقد أعطيت أفضل ما عندي. وعشت أفضل حياة تناسبني، وأنا مستمرة بها وسأتابع”. ثم ضحكت وقالت: “هذا يشبه صورة 3D. والآن أعلم أنه هكذا يمكن بناء الحياة – طبقة بعد طبقة. إنها مجزأة. اطبع صورة ثم أخرى وأخرى…”. واكتسى وجهها بتساؤل مرعب وقالت: “آه، لقد رسمت صورة سفينة فضاء. وداعا”. 

منشورة في الغارديان بتاريخ 24 أيلول سبتمبر 2023.

إيفا وايزمان Eva Wiseman كاتبة تلفزيون وصحافية. تعمل كاتبة عمود في مجلة الأوبزيرفر. 

 

إقرأ أيضا