(تحليل الخطاب والمركزية النقدية) عرض وقراءة

صدر للدكتور عقيل عبدالحسين كتابٌ بعنوان (تحليل الخطاب والمركزية النقدية) عن (دار أسامة) 2018, وقد افتتح بمقدمة عنوانها (المروية حق شخصي), وحين يضع القارئ هذا العنوان ازاء الفصل الثاني من الباب الثاني – الذي خصصه لدراسة سمات الخطاب النقدي العراقي الذي حمل عنوان (المرويات النقدية في النقد العراقي)- ينتهي الى عد هذه الدراسة هي الأخرى مروية نقدية, بمعنى أن الخطاب النقدي –ضمنًا- قال بقدرة النقد العراقي – الذي تدخل فيه هذه الدراسة- على تأمل الخطاب النقد العربي وتحليل مختلف مراحله بقدر كاف من الموضوعية, مثلما تكشف الدراسة عن وعي المؤلف بالمرحلة التي يكتب فيها, وسمات السياق النقدي الذي تتشكل عبره النقدية العراقية. وعلى رأي المؤلف فإن النقد في العراق قدّم خطابه بوصفه مروية نقدية, وهذا يعني أن النقد استفاد من السرد في صياغة اطروحاته, كذلك يكشف مصطلح المروية عن خصوصية الأفكار التي تطرحها تلك المرويات, وصحة استنتاجاتها لا تفهم  بشكل تام إلا إذا نُظر اليها من الداخل شأنها شأن السرد. وبالتالي ينتمي كتاب الدكتور عقيل عبدالحسين – إذا ما نُظر اليه عبر السياق- الى الخطاب النقدي العراقي بنيويًا, أي من حيث سمات بنية الخطاب النقدي العراقي, فهذه الدراسة لم تكن تابعة للخطاب المغاربي ولا الخطاب المصري, بل تحمل في طياتها ملامح تقويض تلك الخطابات. وقد استعرض كتابه مراحل تشكل الخطاب النقدي العربي عبر اعتماد منهجية تحليل الخطاب النقدي, وبما أن المنهجية تنتمي لمرحلة ما بعد البنيوية في النقد الغربي, كذلك تنتمي هذه الدراسة الى النقد العراقي الذي ينتمي بدوره في السياق النقدي العربي الى مرحلة ما بعد البنيوية المغاربية, وتأكيد الدكتور عقيل عبدالحسين على المروية النقدية من دون سواها في الخطاب النقدي العراقي نابع من اعتقاد مضمونه أنه يمكن للقارئ أن يستجلي عبر المروية النقدية خصوصية النقد العراقي, وما يميزه عن النقدين المصري والمغاربي, فكتابه بُني في الاساس على تلمس الخصوصية والسمات التي تشكل هوية هذه المرحلة النقدية عن تلك, ولذلك نرى الكتاب قد شاح عن الخصائص التي تجمع النقد العربي وتمثل عمومية خطابه, مثلما شاح عن الدراسات التي تعتمد على مناهج وآليات متشابهة لا تفرق بين بلد وآخر. فعلى سبيل المثال نالت الاجيال الشعرية خصوصًا والادبية بشكل عام حظوة كبيرة في الخطاب النقدي العراقي, على الرغم من أن بعض النقاد يرى أن الاهتمام بالجيلية يهمش التجارب المتفردة, ويتساءل آخرون عما حققه هذا النمط من التفكير الشعري والنقدي معًا. وإذا ما نظر الى هذه الإشكالية في ضوء تأمل الخصوصية النقدية فان هذه الدراسات ينشغل معظمها في تقديم الأجيال الشعرية العراقية على وفق سرديات نقدية, واختطت هذه السرديات للنقدية العراقية رؤية مغايرة عن السمات التي أسسها الخطاب المصري السياقي والنصي المغاربي.

 ضم الكتاب بابين ومدخلًا, وهذا الأخير بمثابة تصور نظري عن الخطاب النقدي, ليمكن القارئ من الدخول الى القسم التطبيقي وقد أخذ تصورًا عن الأدوات التي يعتمدها الباحث في صياغة خطابه, وقد ضم هذا المدخل عددًا من العنوانات أهمها(الخطاب, المخاطبون الفاعلون, السياق الخارجي, الخطاب النقدي, السياق النقدي, الموجهات الخطابية: الإجراء, الموجهات السياقية للخطاب النقدي: المنهج, العلاقة بين الخطاب والسياق, تحليل الخطاب), وبعدها انتقل الى الجزء التطبيقي للكتاب, الذي كان في بابين, كل باب اشتمل على فصلين, فقد أراد للقسم التطبيقي أن يكون على وفق مراحل تطور الخطاب النقدي العربي, ولا يعني هذا أن الخطاب النقدي خضع لتطورات السياق الخارجي, فقد جاء التقسيم على وفق مقتضيات السياق النقدي, وهنا تكمن طبيعة الكتاب الذي تشكل على نمط المروية النقدية, فالتقسيم نابع من تصور المؤلف أن للخطاب النقدي العربي سياقه المتأثر باطراف الخطاب, بمعنى أن ثمة أطرافًا عدة فاعلة ومنفعلة في الخطاب (المخاطِب والخطاب والمخاطَب) فضلًا عن زمان الفعل النقدي ومكانه, أو كما اصطلح عليه سعيد الغانمي بـ(الفضاء النقدي) في كتابه (مئة عام من الفكر النقدي) وزمان الخطاب النقدي ومكانه ليس تاريخيين بل نقديين يشكلهما السياق النقدي ذي البعد المرجعي. جاء عنوان الباب الأول من الكتاب (خطاب المركزيات) وقد تلمس في الفصل الأول سمات الخطاب النقدي المصري في كتاب الدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي) الذي مثّل المركزية النقدية المصري في أوج عطائها, مثلما اشتمل على أبرز سمات تلك المركزية التي حملت لواء النهضة, واقتضى هذا احتفاءها بالذات واعتبارها قادرة على تغيير الواقع واعادة صناعة الحياة, وهو ما تشكل فعلًا في الخطاب النقدي المصري الذي عد الذات المرسلة للخطاب مركز العملية النقدية, وهو ما  أفضى الى حضور آليات نقدية تؤكد هذا التوجه مثل (الحجاج والسجال والمقايسة) , فهذه الآليات انتجتها علاقة المخاطِب بالسياق النقدي, كونه داعية, وممثل جماعة بحاجة الى نهضة حقيقية. وقد نبّه الدكتور عقيل عبدالحسين الى أن المنهجية النقدية التي اختارها الخطاب النقدي المصري كانت نابعة من احتياجاته, فالمنهج التاريخي وكذلك النفسي الذي استعاره العرب من الغرب في النصف الأول من القرن العشرين لم يكن استعارة فحسب بل استنبات, والاستنبات هو استعارة مع اكساب صفات المكان المستعير للشيء المستعار, كذلك ينجم الاستنبات عن حاجة, في حين لا تقتضي الاستعارة ذلك. وبوصف المخاطِب النقدي مخاطبًا جماهيريًا بمعنى أنه يوجه خطابه الى الشعب لذا فالمناهج السياقية أنسب من غيرها في تمثل هذه الأفكار النهضوية.

  تناول الفصل الثاني المركزية المغاربية التي نشأت بعد انهيار السياقية المصرية كما يرى المؤلف, أو على الأدق كانت عاملًا فاعلًا في انهيار المركزية السياقية الى جانب عوامل فاعلة أخرى أبرزها نكسة حزيران 1967, ويجيب المؤلف ضمنًا عن السبب الذي حدا بالعرب المغاربة الى استعارة المناهج النصية لا سيما البنيوية في السبعينات والثمانينات, أي بعد انهيار البنيوية في أوربا, وهنا يعود الكلام عن خصوصية النقد المغربي, فلم يكن السياق الخارجي فاعلَا بقدر فعل السياق النقدي, بمعنى أن الأطراف الفاعلة في تشكل الخطاب النقدي _ولكي تبرز عناصر تشكلها_ حاولت أن تتمثّل هذه المناهج من دون الالتفات لفاعلية تلك المناهج في الغرب في الوقت استعارتها, ما يهم هو راهنية تلك المناهج وقدرتها على صياغة خطاب مغاربي متفرد, خصوصًا أن المنهج البنيوي أحال المخاطِب _الذي عده النقد المصري مركز الخطاب_ تابعًا للخطاب. ودعا الى علمية النقد, بمعنى إعادة الاعتبار الى النص, وصيّره مركز العملية النقدية, وهذا الفهم الذي قدمه المؤلف انتهى الى أن يتوقف عند آليات نقدية تبرز النص وتؤكد علميته وانعزاله عن الموجهات السياقية, وقد تلمّس ذلك في كتاب (شرفة ابن رشد) للناقد عبدالفتاح كيليطو, عبر عدد من الاليات النقدية التي احتفى بها النقد المغربي منها علامات الترقيم وكذلك بروز آلية الاستدلال والاحالة وكذلك التبرير, الى جانب هذا تتسيد أيضا الية المماثلة, وهذه الآليات كلها آليات نصية تدعم المنهج النصي, وتؤكد تفرد الخطاب النقدي المغاربي.

 

 تناول الدكتور عقيل عبدالحسين في الباب الثاني (مرحلة ما بعد المركزيات) وقد درس خطاب الهوامش النقدية, التي تمثلت بالخطاب النقدي الخليجي والخطاب النقدي العراقي, تناول الفصل الاول الاختلاف والمشاكلة في الخطاب النقدي الخليجي, عبر كتاب الدكتور عبدالله الغذامي (تأنيث القصيدة والقارئ) عبر تأمل سمتي المشاكلة والاختلاف في هذا الخطاب. أما الفصل الثاني فتناول فيه المروية النقدية بوصفها سمة تميز الخطاب النقدي العراقي, وتلمس ذلك في نماذج نقدية عدة منها(مئة عام من الفكر النقدي)لسعيد الغانمي و(مأزق الغراب) للدكتورة نادية العزاوي, و(البئر والعسل) للدكتور حاتم الصكر. وقد انتهى المؤلف الى أن خطاب الهوامش النقدية لا سيما الخطاب النقدي العراقي أعاد لأطراف الخطاب توازنها, فلم يعد النص متسيدًا شأن الخطاب النقدي المغاربي, ولا المخاطِب شأن السياقية المصرية, وقد أشار _ضمنًا_ الى أن الخطاب النقدي العراقي حاول تخفيف حدة الدعوة الى علمية النقد التي تبناها الخطاب النقدي المغاربي, وتجسدت تلك المحاولة عبر تشكيل مرويات نقدية, فعلمية الخطاب تقصي المخاطَب وإن ادعى الخطاب حضوره, لان النتائج التي ينتهي اليها الخطاب النقدي غير قابلة للنقاش لما تعتمده من صرامة علمية وموضوعية, وهذا ما أحال المخاطَب النقدي في هذه الخطابات تابعًا مكتفيًا بالتأمين والاصغاء, لذا فقد أعاد النقد العراقي الى القارئ حضوره, فهو طرف يعادل المخاطب والخطاب في صياغة الخطاب. فضلًا عن أن الخطاب النقدي العراقي -كما يرى المؤلف- قد اعتمد المناهج ما بعد النصية, ولم يكن هذا الاعتماد كافيًا وإنما شفعه بمحاولة صياغة خطاب له خصوصيته, فالقصدية الذاتية فاعل مؤثر في تشكل هذه المرويات. لذا برزت آليات نقدية مختلفة مثل (التوصيف والتعليل والمشابهة). وهنا يعود الكلام الى طبيعة تشكل الكتاب على شكل مروية نقدية أرادت للخطاب النقدي أن يكون خطاب النقدي خاضعًا لمؤثرات عدة, شأنه شأن الخطاب السردي, ففي مختلف مراحل تطور النقد العربي تظهر أصوات وتختفي أخرى بفعل مهيمنات الخطاب التي تتكون من فضاء الخطاب النقدي والباث والمتلقي والرسالة, وحين يتسيّد عنصر ما في مرحلة ما, فقد ساعدت هذه المؤثرات بشكل أو بآخر في إبرازه. واعتماد منهجية تحليل الخطاب حدا المؤلف لأنه يتحرك من المؤثرات الداخلية الى المؤثرات السياقية, وهذه المؤثرات الأخيرة جاءت بإيحاء وتوجيهٍ من السياق النقدي.

إقرأ أيضا