تقويل النصوص في شعر المتنبي

التقويل لغة جاء من الفعل (قوّل) أي جعله يقول ما لم يقله, ويعود هذا الأمر اما الى نوايا سلبية يراد منها الإيقاع بالمُقوّل, عبر انطاق كلامه, وتارة يكون لنوايا حسنة, ولكنه يظل في الاخير تقويل, مهما اختلفت نواياه, ومرة ثالثة تتدخل أحكام القيمة التي تفتتح بها الدراسات في صنع مثل هذا الفعل, فانطلاق بعض الباحثين من أحكام تبدو قطعية وسعيهم لإثباتها ينتهي أحيانا الى التعسف في التعامل مع النصوص.

يأخذ هذا المقال موقفاً من التصور الجاهز للنصوص؛ لان ذلك سيجعل منها بوقاً لأفكار القارئ ونواياه, وهذا ما يسلب من تلك النصوص خصوصيتها وصوتها, فينبغي سيادة منطق الحوار بين القارئ والنص, أملاً بأن يكشف الأخير عن نفسه, فعلاقة القارئ بالنص علاقة تساو, فإذا ما اختلت تلك العلاقة ظهرت تشوهات في القراءة نفسها, ففي حال استبداد القارئ بفعل التفسير والتأويل تقد النصوص الى المنطقة التي يريدها هو, ينتهي الى التعسف في القراءة , فالنص الادبي كائن حي لا يطيق العنصرية والاستبداد من قبل القارئ. في حين أن سيادة النص على حساب صوت القارئ ينتهى الى سيادة قصدية المؤلف, حينها يصبح القارئ محض وعاء يعبّأ بتلك القصدية, وهذا أمر خطير؛ لأن وعي الصوت الواحد سيغدو سائداً.

وإذا ما حاول المقال تفحص ذلك في كتاب (رسالة في قلب كافوريات المتنبي من المديح الى الهجاء) للمؤلف حسام زاده الرومي (1003هـ – 1081هـ) نجد أن عنوان الدراسة فرض على المؤلف نمطاً من التفكير, فقد قادته هذه العتبة النصية الى أن يقلب كافوريات المتنبي كلها الى الهجاء, فضلا عن أن اعجابه بشعر المتنبي قاده لذلك, فقد أشار قائلا: “وللمتنبي في الكافوريات معان دقيقة حتى إنه التزم فيها أن يبني أبياته كلها على قاعدة محتمل الضدين”، ولن نقف عند المبالغة التي يضمها قوله, التي كانت في رأيي سبب هذا التهويل, لان مدائح المتنبي لكافور ليست كذلك كلها, صحيح أنها احتوت أبياتاً تحمل تعريضاً بكافور, لكن أغلبها خرج للمديح, وكان يراد من ورائه نيل حظوة ما عند الاخشيدي. وقد استند المؤلف الى أبيات عدة للمتنبي في الدفاع عن فكرته منها قوله في مقصورته:

      وشعرٍ مدحْتُ به الكركدن             بيـن القريــض وبيــن الـرقـى

      فمــا كـان ذلك مدحــاً لـه               ولكنــــه كــان هجــو الــورى

وكذلك استند الى ما قاله المتنبي لابن جني على وفق ما نقله بعض الشراح: ((لو شئت لقلبت الكافوريات كلها الى الهجو)) فهذان النصان كانا  موجهين أساسيين في توجيه قراءة المؤلف لشعر المتنبي لا سيما كافورياته, ولو صح ما قاله المتنبي عن قلب الكافوريات, فيكون ذلك عبر كتابة قصائد مشابهة في الوزن والقافية كما فعل في القصيدة التي مطلها:

أريكَ الرضا لو أخفتِ النفسُ خافيا             وما أنا عن نفسي ولا عنك راضا

فهذه القصيدة جاءت معارضة لقصيدته الأولى التي كانت في الوزن ذاته والقافية ذاتها , وليس المعنى من قول المتنبي تلك القصائد نفسها التي كتبت في مديح كافور, وحتى إن وجدت أبياتاً تحمل المعنى ونقيضه, فلا يمكن تعميم هذا الأمر على القصائد كلها. ويمكن أن يكون قول المتنبي لابن جني نابعا من سخطه على كافور, وليس من واقع القصائد, وطبيعي حين يسعى المتنبي لإيجاد تخريج لمدائحه, بعد خيبة الامل التي مني بها بعد فراقه كافور.

ابتدأ مؤلف كتاب (رسالة في قلب كافوريات المتنبي) بقصيدة المتنبي الاولى في مديح كافور التي كان مطلعها:

      كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافيا              وحسْـب الـمنـايـا أن يكنّ أمانيـا

     تمنّيتهــا لــمّـا تـمنّـيـْتَ أن تـــرى                صديقاً فأعيى أو عـدواً مُداجيا  

وبما أن مقدمة القصيدة تحمل لوما وتعنيفا للذات يمكن أن توجه الى الهجاء, تارة الى سيف الدولة وأخرى الى كافور, فالمتنبي يلوم نفسه لأنها اختارت الموت شافيا, ويقارن الشاعر بين الموت والحياة , بين كافور وسيف الدولة, وبما أنه توجه الى كافور فقد رضي بالمنايا , في هذه المقدمة شأنها شأن أغلب مقدمات قصائده المدحية في هذه الحقبة يظهر فيها الحس الهجائي, وإن التبس المقصود منه, تارة يكون موجهاً الى الذات وأخرى الى كافور ومرة ثالثة الى الدهر. وبعد تلك المقدمة, يحاول المؤلف اخضاع بقية القصيدة الى مسعاه الذي اشير اليه, ولكنه وقع في التمحل وهو يعالج أبياتا كثيرة داخل القصيدة , ومن ذلك قول المتنبي:

         أبا كل طيب لا أبـا المسك وحده           وكـل سحـاب لا أخـصّ الغواديــا

         يـــدل بمعنـى واحـــد كـل فاخـر           وقـد جمــع الرحمـن فيك المعانيا

         إذا كسب الناس المعــالي بالنـدى          فإنــك تـعطي في نــداك المعاليـــا

فقد ذهب الى أن تشبيهه بالسحاب ليس لانه ممطر بل لانه اسود, وشبهه بالمسك للهزء, وحين يصل الى البيت الثاني يورد ما قاله ابن جني (أنه لما وصل الى هذا البيت ضحكت وضحك هو ايضا, وعرف غرضي أنه قصد به الهجاء), والامر نفسه يجري على البيت الاخير فتوجيهه له لم يخل من تعسف, فهو في الغالب يتجاوز المعاني القريبة, محاولاً التوصل الى معنى الهجاء حتى إن قاده ذلك الى الاسفاف والتمحل, من دون أن يهتم الى أن المعنى القريب والجلي أولى من البعيد والغامض.

من الملاحظ أن مؤلف كتاب (رسالة في قلب كافوريات المتنبي)دائما ما يقابل مدائح المتنبي لكافور بأهاجيه, فحين يستعصي البيت أو مفردة فيه, يقابلها ببيت في أهاجيه ترد فيه المفردة ذاتها, ليحاول عبر ذلك سحب المعنى الى غير ما أريد له, أي الهجاء, ومن شواهد ذلك قول المتنبي:

         إن كنْتَ تسـألُ شكّاً في معارِفِهـا          فمـن بـلاك بتسهيدٍ وتعـذيبِ

فقد أخرج بيت المتنبي من كونه ينتمي لمقدمة قصيدة جاءت لاستذكار الاحبة, وحاول ربطها بكافور, فقال: إن المتنبي ضمّن بيته تشكيكا يكاد يكون تصريحا بأن التسهيد والتعذيب من كافور كما هو مبين في اظهار المضمر بقوله:

       يــا ساقييّ أخمـرٌ في كـؤوسكمـا           أم في كؤوسكما هـمٌ وتسهيدُ 

فهو يربط بين قصيدة مدحية وأخرى هجائية, بين مفردة التسهيد في النصين, متناسياً القصدية المختلفة التي انتجت القصيدتين، وبالتالي يظهر التقويل في هذا الكتاب جراء المبالغة والتعسف في تأويل أبيات المتنبي, فقد حمّلها معانٍ لا تطيقها, إرضاءً لغاياته المسبقة, وقد يُنظر الى هذا الشكل من القراءة نموذجا لتلك التي تتلقط الاوجه البعيدة لمعاني الأبيات, وهذا أمر إيجابي لو نظر اليه من هذه الزاوية, ولكنه يظل في الأخير يحمل مردودا سلبيا من نواحٍ أخرى.

إقرأ أيضا