ثنائية الأخلاق والعقل في حركة التجديد الإسلامي (ماجد الغرباوي نموذجا)

ينوه ماجد الغرباوي في كتابه “مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام”*، وهو الجزء التاسع من مشروعه الشامل “متاهات الحقيقة”، بمشكلة المجتمعات العربية، واستهانتها بحرية الأفراد.  فاقتصاد السوق يضع الإنسان البسيط في متاهة إجبارية بحجة توسيع حرية الاختيار. ولكن ما أهمية وجود طيف واسع من التنافس أمام مجال ضيق وخانق جدا من الاحتمالات؟. وبالمقابل يفرض الاقتصاد الموجه، أيضا، نوعا آخر من التصنيف والفرز الذي يحاصر الإنسان من جانبين. الأول ضرورة تقديم الولاء على القناعات. والثاني ضعف الخدمات لأسباب متعددة ولكنها دائما قائمة. وفي واقع محرج من هذا النوع يجد الإنسان نفسه دون هوية نوعية، ومن غير فضاء خاص، ولا يتحرك بدافع من ضميره وواجبه الأخلاقي، بل يستجيب لمجموعة عوامل يفرضها مكانه في دورة الحياة، أو بتعبير أوضح دورة دينه الاجتماعي. ومثل هذا الشرط يحاصر البشرية بواقع ربوي من عدة مستويات.

الأول هو ما يسميه الغرباوي “المقدس”. بمعنى استثمار الوحي للتحكم بالمجتمع والتلاعب بعلاقة السماء مع الأرض. والثاني هو ما يسميه “الفقه”، ويعمل بين فئتين متعادلتين حكما، لكن الأولى تعمل من فوق التاريخ وتحتكر السلطة الدينية وكأنها نائب عن الإله، والثانية تكون مجردة من كل السلطات. بتعبير آخر الطرف الأول يمثل سلطة تشريع وسن قوانين. والثانية جهة تنفيذ. ولذلك يقتصر وجودها على التعبد ص13. وبذلك تكون العبادة قد فقدت الغاية النبيلة المرجوة منها، وهي تحرير عقل الإنسان من التبعية وتحرير طاقاته من الاستغلال. كما أنها تحرم الإنسان من علاقته بربه وتدخله في جملة علاقات يضع البشر أسسها ومفاهيمها، وكأننا نؤسس لمرحلة ثانية من الشرك والاستعباد ص13.

ولنخرج من هذه المشكلة يدعو الغرباوي لوضع حد لسلطة الفقيه، والانتقال من تفسير القرآن إلى فهمه، ويضيف: ولو بالاستعانة بالعلوم الإنسانية الحديثة ص14.

والحقيقة أن العلوم لها إملاءات قسرية أحيانا، وقد تقودنا إلى مفاهيم ونتائج ضيقة إن لم نعرف كيف نستفيد منها. وطريقة المقاربة هي التي تحكم. فبعض الاكتشافات، التي قادت لتفسير غموض اللغات القديمة، والتي ازدهرت على طول الطريق التجاري بين شمال الحجاز (بلاد الشام) وجنوبها (اليمن)، ساعدت على إزالة كثير من الغموض والإبهام، وبالتحديد فيما يخص افتتاحيات بعض الآيات بحروف ليس لها معنى محدد في لغة قريش. وبالمثل فسرت الغموض الظاهري في سياق بعض الأحكام ومنها الحض على القتل وغير ذلك. ولكن توظيف علوم الإحصاء (ومن الأمثلة عليها دراسات محمد شحرور) حمّلت القرآن أكثر مما يحتمل، حتى أصبح كأنه آلة حاسبة. علما أن الإحصاء نفسه علم وضعي ومتبدل ولا يمكنه تفسير كل العلوم بمنهج واحد. كما أنه لا يخلو من الانحرافات المعيارية التي تعتبر بؤرة غامضة. وهو ما تسميه العلوم الحديثة النقطة العمياء، وأحيانا البجعة السوداء وغير ذلك.  وهذا يفتح الباب للشك بمعاني الوحي الإلهي أو على الأقل بتفسيره.  وما يؤخذ على هذا الأسلوب أكثر مما يحسب له.

أولا لا توجد ظواهر كمية في القرآن، ولكنها حالات، ولا أستطيع أن أرى كيف يمكن أن أقدر الأحوال بحسابات يدخل ضمنها الجمع والطرح والتقسيم وغيرها من العمليات الحسابية.

ثانيا لا يمكن أن نأخذ الأرقام التي وردت في القرآن حرفيا. فهي جزء من المشكلة البلاغية التي كانت تهدف للتأثير بالمجتمع الذي تخاطبه، عدا أنها قد لا تعني ما تقول بمقدار ما تحاول الإشارة لجسامته وخطره بالمبالغة والتهويل.

ثالثا لا يمكن التعامل مع القرآن على أنه دراسة فلكية تتابع أسرار ومجاهيل الكون. فهذا لا ينسجم مع نظام المعرفة المتاح في حينه. وإذا وردت آيات تشير للمعجزات والخوارق الطبيعية فهي فقط لتنبيه المجتمع التجاري الكولونيالي (التابع لإدارات أجنبية تتصرف بأقداره). وبلغة أوضح لتكبير عقل المجتمع وفتح آفاقه على قضايا أوسع تتيح له تحرير روحه أيضا.

رابعا إذا وردت قضايا حسابية كالميراث والزكاة فقد كانت مختصرة، ووسعتها تعلميات لاحقة. وقد انطلق الغرباوي من هذه النقطة ليلفت انتباهنا إلى معاريين لا بد منهما في أي قراءة للمقدس.

الأول هو العقل.

والثاني هو الأخلاق.

وساوى بين الاثنين في مفهوم واحد أطلق عليه اسم “العقل العملي”. ولذلك يضعها الغرباوي أمام التشريعات ص17، ويقسمها نقلا عن الأصوليين إلى أحكام تكليفية ووضعية. ويرى أن بجانب كل أمر وضعي حكم تكليفي ص18. وأدى ذلك إلى إنتاج تشريعات قيدت حرية الإنسان ومنعته من التفكير، وجعلته يتخبط في متاهة من الأوامر التي تغطي مسائل تتعلق بمصيره وحياته الثانية – بعد وفاته بقدر ما تحكم كل صغيرة وجزئية تافهة من حياته.

ولكن إذا أجاز القرآن نسخ بعض الأحكام، من باب أولى مراجعة التشريعات التي تتراكم بفعل بشري. وهنا يأتي دور العقل العملي والفعل الأخلاقي ص22.  وهذه إضافة من الغرباوي. فالعقل العملي ليس كتلة أفكار واحدة، وهو في الحقيقة يشمل ما يمكن تطبيقه (ويدخل في نطاق الخيال العلمي وقدرة الإنسان على التخيل وتحرير التصورات بأفكار استباقية)، وما تم تطبيقه فعلا (وتتحكم به الأخلاق والتقاليد المرعية والإمكانات أيضا). أو ما يسميه الغرباوي الأخلاق التي يفرضها منطق مرحلة من المراحل. وأبلغ مثال عليها دور المرأة في المجتمع. وإذا كان هذا المثال تقليديا ومكرورا جدا أذكر معنى الطهارة والنظافة. وكلاهما يمس طقسا يوميا من حياة المسلم وهو الوضوء. وحتى إذا وردت إشارة ضعيفة تدل على خلفيات أحفورية لهذا الطقس، منها أنه تطوير لفكرة التعميد المسيحية، أرى أنه يحض على أهمية النظافة وعلى إقامة حاجز يفصل بين الغرائز والروح عند البشر. فالاغتسال (أو الغسل للتوضيح) طقس يشير لضرورة ولادة الإنسان طاهرا من كل النوازع قبل أن يتوجه لجانبه الروحي، وما تمليه عليه واجباته المتحررة من القيود الدنيوية. وهذا فرق هام في المواقف.

ووجود فروق أساسية في مراحل الوضوء والتيمم حسب المذهب والطائفة لا يهم القرآن ولا الله. وأصلا كلاهما يهدف لتوحيد الشعائر والتصورات وليس لتوسيع مجال الاختلاف. وحكم الوضوء بالأصل مثل حكم شرب الكحول. فالموضوعان له علاقة بجاهزية المتعبد ليندمج بتعبده، وليكون إنسانا متكاملا يتحكم بتصرفاته، وليس عدة أشخاص في صورة شخص واحد. وبتعبير الغرباوي ليكون حرا وقادرا على الاختيار وفق مقتضيات الحكمة ص31. أو ما يسميه لاحقا مرحلة الجعل الشرعي ص31 بحيث يكون الإنسان واعيا لأفعاله ومسؤولا عنها، وليس آلة عمياء تعمل في خدمة غيرها وحسب توجيهاته. وفي هذا السياق تنشأ مشكلة الاستلاب الديني التي تقود إلى اغتراب روحي ووجداني مخرب ومعطل. ويرى محمد أرغون أن الأرثوذوكسيات الأساسية في الإسلام ناجمة عن هذا التغريب، والاقتتال الذي جرى في القرن السابع بين الخوارج والشيعة من طرف والسنة من طرف آخر لا يبعد كثيرا عن اقتتال الكاثوليك والأرثوذوكس في القرن الثالث عشر في سياق الحملات الصليبية التي انطلقت من الغرب باتجاه الشرق العربي والسلوفيني. والجانب غير الأخلاقي والمرعب من هذه الخلافات أن أزمة الخوارج لم تنشأ من فراغ تشريعي لأنها تفاقمت بعد أقل من 15 عاما على وفاة النبي. ولذلك لا يكفي الفراغ التشريعي لتفسيرها، ولا بد من وجود قبليات واحتقانات أدت لها. وهو ما يرجح كفة الخلفيات الاجتماعية لمجتمع الوحي. فالتشرذم الذي وصل له تحكمه أسباب اجتماعية مادية مثل أي خلاف بين أعضاء الأسرة الواحدة على الميراث. ويمكن قراءة الاختلاف في التشريعات على أنه أيضا خلاف في الفهم.  وإن اتفقنا أن العرب كانوا على سبع لهجات، لا شك أنهم كانوا خاضعين لأكثر من بنية عقلية واحدة، وإذا وحدهم النبي بوجوده عادوا للتشتت بعد غيابه المبكر والمضني والذي ترك صدعا في جدار الأمة الوليدة. ومصدر التشريع الواحد، كما يقول الغرباوي ص32، أحاطت به عدة ظروف كانت بحاجة لكثير من الحكمة والدراية لتحديد ملاكاتها (والتعبير له أيضا) ص32. ولا أفهم هذه العبارة بضوء الظروف العامة للمرحلة ولكن بضوء تنوع واختلاف نوعية المجتمعات وطبيعة نشاطها الاقتصادي. هل هي مخلصة لمعنى الأسرة القديم – رابطة الدم وليس دائرة التربية الضيقة أو رابطة المسؤولية المباشرة. أم أنها ملتزمة بأخلاق وقوانين مجتمع الصناعات التجارية الجديد.  ناهيك عن القطاع العقاري الذي انتشر مع تبدل إيقاع الحياة، وما تعرض له من إعادة تنظيم في المفاهيم والمصالح. ويشير الغرباوي إشارة واضحة إلى المصالح في تثبيت الأحكام. ما يثبت نفعه يدخل في خطاب مرحلة الإثبات ص35. ويستدرك فورا أنه لا يوجد معيار دائم يحدد للمشرع المفسدة والمصلحة في العمل ص35. لذلك لا يجوز النظر إلى المشرع على أنه مصدر مطلق للمعرفة، وإلا تحول إلى أمر إلهي من مرتبة ثانية، ولانتهى بنا الحال إلى هرم من التعليمات الإلهية، رأسه في السماء وقاعدته على الأرض. بمعنى أن الأوامر ستتسع حتى يجد المسلم نفسه في سجن من الطقوس والتعليمات. ومع أن التشريعات ليست ميتافيزيقية، بتعبير آخر ليست من مصدر إلهي، فقد احتل المشرع مكانة نائب للنبي وفي بعض الأحيان نائب للسماء نفسها. وهي إشارة إضافية على عودة نظام التفكير القديم. وقد توسعت الوساطة مع توسع مجتمع المدينة، واندماج المسلمين في اقتصاد السوق بكل معايبه، وفي المقدمة نظام التكسب وجني الأرباح. وأدى ذلك لتعديل جذري على البنية الروحية للمسلم، فقد تحول المجتمع بذاته لسلعة صغيرة داخل سوق كبير متعدد الأنشطة والأساليب. وفي هذا الجو تراجعت القيمة الرمزية للتشريعات وحل بمكانها تمثيلات شرعية. ويقول الغرباوي عن ذلك خصوص الأحكام التي نص عنها القرآن ص35. وأضيف خصوص حقل هذه الأحكام حسب نوع النشاط الفرعي ضمن شبكة العلاقات العامة،  وهو ما يسميه الغرباوي الحكم الإرشادي أو التوجيه ص35.  ويتحرى فيها الفقيه الحكمة والاعتراف بالحدود التي يفرضها الواقع. ولذلك يستحسن التدرج في الإملاءات وتجنب الاستفزاز ما أمكن ص50. وإذا كانت آيات الأحكام ناظرة للواقع كيف نغض الطرف عن هذا المبدأ في التشريعات التي يسنها البشر ص 52.

ومع أن الغرباوي يفضل أن يضع نفسه في واحد من الاتجاهات العقلية التي تعمل على تنظيف الحديقة الخلفية للفكر الديني، وأقصد بذلك تاريخها الذي مر بمرحلتين، الأولى تمكين أغنته بخلاصة الأفكار والاكتشافات العلمية التي بلغت درجة التأسيس لنظام معرفة بعد إغريقي – أو نظام حكمة أوسطية – باعتبار أن الإسلام اعتمد على تجديد حوض الحضارة البيزنطية وإغنائها بتصورات تقدم الروح على المادة، والثانية هو أسطرة العقل وتوسيع مجاله المجدي بالبداهة مع فلسفة كلبية وتراجيدية، فأنا أعتقد أنه أقرب لسردية واقعية جديدة ومتعالية على الفهم الميتافيزيقي للمجتمع. أو بتعبير آخر هو أحد المبشرين بالرواية الواقعية للعقل الأرواحي، بنفس الطريقة التي بدأ بها غارودي بعد انشقاقه عن المادية الديمقراطية لمركزية العقل العملي. وأول بيان له بهذا الاتجاه كان في “واقعية بلا ضفاف”. وينضوي تحت مظلته كتاب الغرباوي الأول “إشكاليات التجديد”.

وبرأيي بذرة الواقعية في سرديات العقل الإسلامي موجودة في هذا الكتاب المبكر. وهو برأيي إعلان عن عدم إلزام أي حكم دون أخذ شروط مرحلته بعين الاعتبار ص50. ويضيف على ذلك لاحقا أن المهم في قراءة أي نص ليس المطابقة مع الشريعة ولكن عدم التعارض معها ص55. لأن الاستعداد شيء والتكرار شيء آخر. وأسوأ ما في التكرار أنه لا ينتبه لاستنزاف إمكانيات موضوعه وضيقها وبرمها بالمستجدات. ولا أعتقد أن الغاية من الإسلام هي التضييق ودفن العقل في ظلمات الماضي. وحتى إن أهم رموز السلفية الحديثة، وهو الشيخ محمد بهجة البيطار، كان لا يوافق إلا عن دليل ولا يخالف إلا عن صواب كما يقول عنه البشير الإبراهيمي. بمعنى أنه لا يشك بالثوابت ولكنه يشكك بما بني عليها لاحقا من توليدات وانعطافات، وهي حالة جنائية تستوجب الاحتكام للعقل لمعرفة الأخطاء وتطهير النفس منها، أما ما يتبقى من شوائب (والكلام الآن للغرباوي) تتكفل به الأخلاق النسبية لكل مرحلة، ومثالها مشكلة الأرباح الثابتة في البنوك. هل هي ربا أم أنها كسب مشروع؟ ص57. وهي مثل مشكلة الحجاب. وكان غطاء الرأس مسالة معروفة حتى في الجاهلية، وعلامة للتمييز بين الطبقات الاجتماعية، ولكن البنوك لم تكن معروفة، وما ورد بها من أحكام كان يقصد نشاط الأفراد وليس دورة رأس المال في مؤسسة يقوم على خدمتها جيش من الموظفين، ويترتب عليها دفع ضرائب لخزينة الدولة. ولا تجوز المشابهة بين إقراض رأسمالي لمبلغ من المال مقابل سعر فائدة مع عمل مؤسسة لها قوانين داخلية ويترتب عليها واجبات. وفي كل الأحوال سعر الفائدة الثابتة لا يعطي نفس المردود في سوق يقدم خدمات مأجورة بأسعار غير مستقرة. بتعبير آخر، وكما يقول الغرباوي، الأزمان والأحوال ليست متساوية على وجه الإطلاق، وهذا يتطلب إجراءات من نوع آخر تستند على مبدأ الحكمة وليس التقليد الأعمى ص54. وحتى لو نظرنا لبدايات الإسلام سنلاحظ وجود فراغ تشريعي بدأ من النقطة التي انتهت عندها التشريعات، ولذلك يجب تعريف هذا الفراغ بأن كل ما يقع بين النصوص والواقع التطبيقي. وينسحب ذلك على النبي، فأفعاله بصفته ولي أمر المسلمين غير التشريعات الإلهية التي عليها نص ص71.

وتصرفات النبي حينها تدخل في مهاراته وقدراته على إدارة مشاكل الحياة وليس ضمن تنفيذ الأوامر السماوية ص72. ويبني الغرباوي على ذلك نتيجة هامة وهي أن إدارة الفراغ لا يجيز إلحاق تطوراته بالتشريعات ص77 فهو نشاط اجتماعي تنظمه الدولة وبقية المؤسسات المختصة (حسب الرؤية الكينزية المعروفة والتي حل محلها الليبرالية الجديدة – انطلاقا من مبدأ ما بعد الحداثة واللامركزية في تنظيم الحقوق والواجبات).  ولكن في هذه الحالة يجب مراعاة المبادئ التالية.

1- مركزية العدالة.

2- مبدأ المساواة بين الجميع.

3- السعة والرحمة.

4- مراعاة الواقع ص88.

ويبدو لي آخر شرط بحاجة لتوضيح. ماذا يقصد الغرباوي بالواقع. هل هو ظرف المرحلة وخصوصية المجتمع أم أنه يقصد فعليا الفهم التاريخي للأسباب. فمعنى الواقع متبدل من إنسان يعيش حالة وجودية معينة إلى إنسان ينتمي لشريحة معينة ضمن مجتمع سياسي تخترقه الطبقات، وكل طبقة تخترقها حقول أو ما يقول عنه بوردو استثمارات لرأسمال بشري وفكري محدد. وفي هذه الحالة يكون الحكم النهائي ليس لإدارة المشكلة ولكن لرأي المؤسسة، سواء كانت خاضعة للدستور المدني أو لمنطق حكومة الطوارئ. وعليه لا يمكن النظر للتشريعات على أنها تأتي من مصدر واحد ص89، ولكن من ظواهر بشرية عامة ومتكررة. من ذلك الأعراف كالحصانة القضائية والجعالة التي يتلقاها أعضاء الأسرة المالكة (وهي مشاكل موجودة في دول معروفة باحترام الدساتير والقوانين مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة). ولذلك يتأجل تصحيح العدالة المفقودة لديهم حتى انتفاء الشرط – طرد أحد الأعضاء من شجرة العائلة أو انسحابه منها طوعا أو نهاية الفترة الدستورية وغير ذلك. ولا شك أن الغرباوي لاحظ هذه الاختناقات ووضعها تحت عنوان عريض وهو نسبية التشريع ص90. ومن البديهي أن تكون الأساليب نسبية تبعا للعقل المنتج لها، فهو غير دائم ومتبدل. ولذلك يأخذ تعليل الأحكام مكانة هامة في أطروحة الغرباوي ص100. وعليه لا يمكن أن تفرض على أحد الالتزام بالشريعة مثل فرض الالتزام بالكتاب ص107. ومن لزوم هذا الرأي التخلي عن فكرة أن الوحي رسول من الله إلى نبيه والاعتقاد بفكرة بديلة تقضي أن الوحي تجربة عقلية ص118. ولكن ما لم أفهمه اشتراط الغرباوي تلازم هذا العقل مع أفق خيالي ومغامرة نفسية ص118. فالعقل يمكنه أن يتخيل، ولكن تخيلاته هي انعكاس لأمنيات مكبوتة، ولا مجال في التشريع للتمني على ما أعتقد. وكما ورد لاحقا التشريعات جاءت لتنظيم الواقع وللعمل في سبيل مستقبل آمن وأفضل ص119. بتعبير آخر دورها تقديم إجابة على المستجدات، وأحيانا تقديم تصورات عن بدائل، أما التخيل فهو مهمة خاصة بسلالة أخرى من البشر مثل الكاتب والمفكر والفنان. وإذا كان الغرباوي يقصد ترميز بعض النشاطات الخاصة بالثواب والعقاب، ومنها الجنة والنار وأهوال القبور والنفس المطمئنة فهي، إن ثبتت صحتها، تدخل في خصوصية الحياة الذهنية للنبي، ولا يمكن تعميمها على ما يترتب عليها من قضاء مدني وأحكام (أو تشريعات باستعمال العقل). وقد أشار الغرباوي لذلك مسبقا في سياق كلامه عن خاتم النبوة وإمضاء  التأويل ص110 – ص112.

ويستعمل الغرباوي هنا مفهوم الاستطاعة (المجعول وليس الجعل على حد تعبيره) للتمييز بين الدائرة اللاهوتية والنشاط الواقعي، ويقدم الحج كمثال. فهو فعل أمر ولكنه مشروط بالقدرة على التنفيذ، وهو مبدأ يدل على عدالة الإله ومساواته بين الفعل والترك (بتعبير الغرباوي أيضا). ويضيف عليها بالاحتكام للسيد محمد باقر الصدر شرط الأخلاق ص125 . وورد ذلك ضمنا في الآية القرآنية لأن الاستطاعة عقليا لا يترتب عليها الضرر والإفساد – ووردت عدة نصوص بأماكن متفرقة تأمر بعدم إلحاق الضرر لا بمال ولا بنفس مسلم أو كائن حي. ومن باب أولى إذا كان الحج لمرضاة الله أن لا يؤدي لإغضابه. ويمكن أن نفهم من ذلك توخي الحذر في الأداء والالتزام والتأكد من عدم وجود آثار جانبية على فعل أولي. وبالمثل يجب معاملة الأحكام الوضعية وتحري جانب الحكمة والسلامة فيها ص126. فالدين مطلق لكن المعرفة الدينية نسبية. ص144. ولا أود الدخول هنا بمجادلة حول المعنى الأساسي للدين، وهل هو شيء يأتي من خارج المعرفة، فالدين ولو أنه شأن إلهي يبقى جزءا من الوحي، قناة التبليغ، والتي وجد الغرباوي أنه تجربة عقلية، ولذلك يجوز عليه ما يجوز على العقل، فهو علبة لتجميع الملاحظات وترتببها بما يجعل لها معنى، سواء كان متعاليا كما هو في الإلهي أو عليا كما هو في الواقع التاريخي. وبالأساس السماء تاريخ لحادثة قديمة انفصلنا عنها بحاجز يشبه حاجز الاغتراب الأول عن الأم، ويأتي بعده الفطام – وهو ثاني غربة مؤلمة تهدد الإنسان بخطر المجاعة والحرمان، وتنهي هذه السلسلة بوعي معنى الحرام والحلال والجانب الممنوع من الفردوس الأمومي. وهي آخر وثالث غربة تفاقم من سرعة دورة الحياة ودخول الولد الصغير في مرحلة الرجولة. وهو ما يخلق حاجزا شرعيا لا يجوز الاستهانة به. ولذلك لا يوجد تفسير لأي نص مقدس من وراء أو فوق الوعي التاريخي لنظام المعرفة التي تجعل نسبية المعرفة بمستوى واحد مع لانهائية وشمولية الدين وتعاليه.

بلغة أوضح فكرة الدين هي نتاج لوعي البشرية بضرورة وضع شرط ينظم الحياة. وحين ذكر ماركس أن الدين هو أفيون الشعوب، أضاف أنه روح الظرف الاجتماعي التي طرد منها الروح. بمعنى آخر إنه حل لفراغ ميتافيزيقا اجتماعية ينهكها الصراع بين الطبقات والاقتتال في سبيل مكاسب آنية. وباعتبار أن الدين هو وعي للفراغ الروحي والمناداة بالتعويض عنه، فهو أيضا من صنع الإنسان وظروف تاريخه. ولذلك وجدت خلافات في التفسير والتطبيق، ولا يختلف الغرباوي مع هذه النتيجة رغم اختلافه مع منطلقاتها، فهو يشترط على الاجتهاد معرفة ظرف وتاريخ الحكم أو الإلمام بأحواله الزمانية والمكانية ص145. ولذلك يجب عدم الوثوق ببنية معرفية مغلقة – أو نص والاحتكام لمعناها وسياقها في التاريخ الاجتماعي والفكري ص146. وعليه لا يجوز لفقيه احتكار فهم وتأويل الكتاب أو ما بني عليه من أحكام ص147.

وعموما لا يمكن مقارنة الفقيه المعاصر رغم التطور المعرفي الذي شهدناه بعد الثورة الصناعية وحتى الآن مع الفقيه الذي ظهر في صدر الدولة الإسلامية، وحتى سقوط الأندلس. ويكفي أن العقل الإسلامي في حينه كانت بيده روح المبادرة، بينما العقل الحديث تابع ومتأثر بالاكتشافات الاستعمارية، ونحن في الوقت الحالي نبني على معطيات تخدم صعودنا من الحفرة الحضارية التي سقطنا فيها. وكما أكدت جياتري سبيفاك وجوديت بطلر الذات الضعيفة تبحث عن هويتها في الذات القوية. ولذلك تستعير هوية ليست لها ولكنها أقرب لروح العصر ومتطلباته. وهذا يساعد عمليا على تحرير الإنسان الضعيف من المعارف التي تحولت إلى جيب أسود أو لحظة ضائعة من سياقها التاريخي، ولكنها لا تمكنه من نفسه مجددا، ولا تعيد تحرير إرادته، ولكن تغرس فيه إرادة ونوازع جديدة تتبع وتخدم نظاما معرفيا مختلفا كل الاختلاف. وأسمي ذلك ولادة دين مجهول وغامض يحمل اسم دين معروف. ولا يوجد أي تجديف في الموضوع، رغم وجود ثوابت وحدود لا مناص منها تعبر عن نفسها في سياق مغاير. وإن لم تفعل ستعاني من شحنة عالية من الاستلاب الوجودي. في حين أن التجديد يفرض استلابا روحيا لكنه إيجابي، وسرعان ما يجد طريقا ليبرأ به من أمراضه وليتحاوز محنة القلق والشك.

ويولي الغرباوي الأخلاق دورا أساسيا في المنظومة الجديدة. ويرى أنه هدف أساسي غير منصوص عنه لفظا لكنه موجود ضمنا في أصل الرسالة. حتى أنه يربط ببن البعثة والأخلاق ويستند على ذلك إلى قول الرسول الذي ورد فيه أنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق. بمعنى الدور الإيجابي والبناء من المنظومة. ولا يفوته التأكيد على تعويم الأخلاق رغم نسبيتها، وبالأخص بعد انتقال مركز الثقل في المجتمع الجديد من العواصم التقليدية الثلاثة: دمشق وبغداد والقاهرة إلى مربع دول الخليج. وقد خلق ذلك استقطابات جديدة اخترقت الشرق الأوسط بالطول والعرض. من جهة مع طهران، ووراء ذلك تنافس قديم على ولاية تنفيذية (بين المذاهب). ومع تل أبيب ووراء ذلك أيضا ظروف مخفية ومتستر عليها تعبر عن دورة الحرب الباردة ومخاطرها على استقرار التبادل التجاري مع كتل مؤثرة في جنوب شرق آسيا ولها حضور ملموس في الحياة العامة لدول الخليج. ناهيك عن الخوف من اهتزاز الاستقرار القلق الذي يقوم عليه التبادل السلعي للسوق الهش. ويزيد من هذه المخاوف تأزيم حروب تدور من وراء الستار مثل حروب المناخ – وليس البيئة لأن المناخ شيء له علاقة بالغلاف الجوي والعلاقة بين كواكب المجرة. بالإضافة لحروب مصادر الطاقة – قذرة كانت أو نظيفة. وأعتذر لهذا التعبير فهو أوتوماتيكي والمقصود به ما تفضل الغرباوي بالكلام عنه في سياق حديثه عن الحسن والقبيح في العقل. ومثلما كل شيء قبيح عقلا له علاقة بالأخلاق الدينية وغير الدينية، الطاقة القذرة أيضا لها علاقة بحسن إدارة الموارد عقلا بغض النظر عن اتجاه النظام وتحالفاته، لأن الخطر المحدق بمستقبل الأرض يهدد كل الأنظمة بغض النظر عن تبعيتها لحضارة الشرق أو الغرب.

ويبدو أن خلق التوازنات البيئية مزحة أو نكتة في واقع يميل بشكل مضطرد للعنف وحل النزاعات بالقوة، مع عودة السباق للتسلح النووي، والتهافت على حيازة قوة نووية، أو على الأقل، إنتاج طاقة بوسائل نووية، رغم وفرة المصادر المستدامة والخالية من المخاطر كالرياح والشمس.

وفي هذا الإطار تكون الأخلاق والحكمة من المعايير الهامة التي تفرض نفسها علينا. وهي ليست إحدى علامات توليد ديانة جديدة وإنما ندبة تسببت بها الخريطة السياسية الجديدة للشرق الأوسط الثالث. باعتبار أن أول شرق انتهى بسقوط دولة محمد علي. وثاني شرق  انتهى بوأد حركة التحرر العربي واقتطاع لواء إسكندرون وإلحاقه عام 1939 بتركيا. وكما يقول الغرباوي أشرت المرحلة الثالثة على ضرورة العدول عن ثقافة النقل والالتحاق فورا بثقافة العقل ص225.

ويسمي ذلك بالوعي الحديث. وأود أن أضيف أيضا ما بعد – بعد الحديث. فالحداثة ألغت الدور الروحي للدين في قراءة التشريعات، وما بعد الحداثة ألغت الدور الموضوعي للواقع في تفسير الأحكام والمعاني، واشترطت الحداثة البعدية تركيب أطروحة متوازنة من الفعل والأثر. وهو ما يوازي فكرة الغرباوي عن تدعيم وتحصين العقل بمنظومة أخلاق فطرية تقيس أثر الفعل على أرض الواقع. ويحدد منطلقات هذا العدول بما يلي:

1-عدم الركون لأي وصاية غير وصاية العقل والضمير.

2- قراءة السنة النبوية انطلاقا من جذر قرآني.

3- ختم القرآن وأن لا تسري صلاحياته لغيره.

4- الطابع الغائي للرسالة الإسلامية، واشتراط أن يكون إنسانيا.

5- أن لا يكون للدين دور تكويني وأن يكتفي بالإرشاد والتوعية. ويطلق الغرباوي على هذا البند اسم مدركات العقل العملي. وأقرأه بمعنى العقل التجريبي أو الواقعي، وهو مبدأ طالما تابعه الدكتور حسين مروة في سلسلة من الدراسات التي كشف بها عن الجذور العلمية التجريبية وغير الرواقية في النزوع المادي لفلسفة المسلمين الأوائل، ولم يتوقف عند تراث الرشديين والخلدونيين وذهب لما أبعد من ذلك أمثال الرازي من بين الأفراد وإخوان الصفا من بين الجماعات.  ووصل به الأمر لمحاكمة ديكارت وابن رشد على أساس المكتسبات المادية للإسلام الحضاري. وهو ما أسس لعلم إسلام عربي انتبه إليه مؤخرا أليكسي مالاشينكو، وهو أحد الآباء الروحيين للاستشراق الروسي المعاصر.

ويبني الغرباوي على هذا السياق ما يرى أنه تعارض بنيوي ببن الأخلاق والتقليد. وبهذه النتبجة يقطع بفكرتين.

الأولى أن التقليد يفيد معنى التأخير والعسر الحضاري. وأن الأخلاق هي خلاصة الصفات الحميدة. وعكسها اللاأخلاق. ونفهم من ذلك أن أخلاقيات الغرباوي موجبة وبيضاء ومفيدة في كل الحالات. ولا وجود لأخلاق ضارة. بمعنى أنه لا مجال للحلول الرمادية والأفكار الوسط، إما أخلاق أو لا أخلاق.  وبهذه الطريقة يسحب البساط من تحت جيل التنوير والنهضة، ويقفز مباشرة إلى أزمة العرب مع الحداثة. فالتنوير ممر اضطراري كان لا بد منه العبور إلى بنية وطنية حديثة استغلت الدين وأخذت منه أكثر مما قدمت له. وربما ما حصل العكس. لقد أساءت لطبيعة الدين – إسلامي أو غير إسلامي ووضعته في زاوية الشك والدفاع عن الذات. وتحول الشرط لظرف بقاء أو حالة وجودية. وزاد من حدة هذا الوعي التناحري والصراعي نكبة 1948 التي كان لها طابع دين أمة – من طرف الغرب الصهيوني وطابع عرق – شعبوي من طرف العرب. وشتان ما بين الطرفين، بنية كلاسيكية جديدة – أخذت من الغرب أحدث ما لديه ومن الشرق أفضل ثوابته وهي الأرض والتاريخ. وساعد هذا الاتجاه على تطوير وتقوية الإسلام العربي. ولولا صعود الرومنسيات الوطنية، وكانت مبسترة ومنزوعة الدسم، لما نكبنا بثاني هزيمة عام 1967. وهو ما فتح الباب على مصراعيه لتراجع قدرات العرب الدفاعية وصعود شعبية المقاومة ذات الطابع الإسلامي والجهادي.

وإذا نظرنا إلى الإطار الأخلاقي لمرجعية التنوير ابتداء من فرنسيس المراش ومرورا بالكواكبي والطهطاوي ستصدمنا بنية المحاكاة والتقليد ذات الطابع التحريري – نسميه عصر الأنوار العربي. وفي الحقيقة كنا نمزق أوراقنا الإيديولوجية والأخلاقية ونستعيض بأوراق الثورات الصناعية للغرب. والمشكلة ليست في تبديل حصان السباق ووأد الطابع التراجيدي للحضارة الشرقية الأصيلة وإقامة هياكل ومعابد للحضارة الاستهلاكية الغربية، ولكن في استعارة أخلاق تلك الحضارة ومناهجها وطريقة مخاطبتها للواقع دون المتابعة لإنتاج ثورة تصنيع داعمة ومؤصلة لها. ولذلك اغترب خطاب التحرير وتحول لممارسات لفظية من غير تطبيقات. وهو أول خطأ منهجي أدى لانتقال البندقية من يد حركة التحرير ليد الأصوليات. أو ما يجب أن نسميه من الآن وصاعدا لحركة التحديث والتجديد الإسلامي. وحتى وإن كانت هذه الحركة سلفية فهي تبحث عن سبل تجديد من داخل نظام روحيتها الاغترابية والقلقة والمضطربة. ولذلك أرى أن ما جرى في 7 تشرين الأول في غزة لم يكن انتفاضة تحرر فلسطينية فقط، ولكن رسالة من الإسلام غير العربي لطرفي الحرب الباردة.. أنه هناك طرف ثالث يحتل مكان دول عدم الانحياز، وهو التكتل الإسلامي، وتمثله بشكل من الأشكال إيران وتركيا وماليزيا (ومعها دول آسيوية أصغر). وأتوقع أن الإسلام العربي سيكون له دور مساند في كل الأزمات القادمة، وليس دورا قياديا كما كان الحال في ذروة صعود نجم جمال عبد الناصر.  وربما تفرض علينا هذه المستجدات واجب مراجعة دور الضمير والأخلاق في الدين، وعلاقتهما بالإستراتيجية التنموية لعصر الأنوار. فقد ثبت إفلاسها وعدم نجاعتها. وكل ما جنته بعد أكثر من مائة عام على درب المشقة والإنفاق والتخبط هو أربع هزائم ومزيد من عدم الثقة والغموض بشأن المستقبل.

ودراسة الغرباوي واحدة من المحاولات التمهيدية التي تحتاج لفتح بند خاص بمحاكمة رواد التنوير ومرجعياتهم وطريقة تشغيل عقلهم النهضوي. لأن ما يهم في الجهاد السياسي ليس الكلام المنمق ولكن ما نحصده ونقطفه من ثمار ونتائج.

والسؤال الآن أين موضع دول الإسلام العربي بإيديولوجياتها الثقيلة وآلتها العسكرية الضخمة وثرواتها التي لا تقدر من ما يجري على أرض الواقع؟. ويؤاخذ الغرباوي على العقل الأخلاقي ضعفه أمام النتائج لأن التشريعات تهدف لحل المشكلة وليس لتشخيصها وتحليلها فقط. فأن تعرف الداء لا يكفي والمعرفة هنا وجاهية وناقصة، ولا تكتمل إلا باتخاذ إجراء جذري وناجع يلغي المرض من جذوره ص246. وهي، كما يضيف الغرباوي، ميزة للغرب وسبب من أسباب نجاحاته. ويتمثل ذلك عمليا بما يقدمه من ضمانات ذاتية لحماية واحترام القوانين ص248. ولذلك لا يرى حكمة في شعارات الإسلام الحركي أو ما اصطلحنا عموما على تسميته الإسلام السياسي. ويذكرنا بمبدأ اجتمعت عليه الجماعة الإسلامية بكل مذاهبها وهو الحل في الإسلام وبقراءة ثانية الحل في القرآن. ص268. ويضاف لذلك مبدأ الإعداد – بالاقتباس من أمر إلهي نصه: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم. واختصرت جماعة الإخوان الآية بأول كلمة وهي “أعدوا”. إذا يجزمون أن كلمة السر في الإعداد. وهو متفق عليه بين جميع الحركات السياسية العربية التي خرجت من معطف نتائج الحرب العالمية الأولى – سواء إخوانية وتدين بنشوئها للمفكر الباكستاني المعروف أبو الأعلى أو أنها عروبية – وتبني على نهوض وسقوط حركتين الأولى هي ثورة الهاشميين في الحجاز. والثانية شهداء 6 أيار في بلاد الشام. وتبدو المشكلة معقدة إذا علمنا بوجود تناحر بين الحركتين، كان يخفت صوته في بعض اللحظات الحاسمة مثل الانقلاب على سلطة مثبتة، ثم يرتفع حين وقت المحاصصة. وأعتقد أن كلمة إعداد بأصولها التاريخية تعود لنشوء وانتشار الدعوة السرية للانقلاب على البلاط الأموي. وهي حركة تآلف وموالاة، وأيضا كانت تضم فريقين إسلاميين عربي وآخر غير عربي. بمعنى أنها ذات بنية دعوية ظاهرا ولكنها عرقية وتحمل كل دوافع تصفية الحسابات البينية والخارجية. ومثلما كانت بنية الدعوة سببا بنجاحها كانت أيضا السبب المباشر لسقوطها، وكان ذلك أول نقطة في توسيع نقطة الضعف البنيوي داخل حركة القوميين العرب. وكما أرى هذا هو السبب الحالي أيضا بالدعوة للتخلي عن شرطية الإسلام العربي والمباشرة في الحركة الدولية متعددة الاتجاهات والمذاهب. ولكن لا توجد لحينه أرض ممهدة لتقوية هذا التحالف لضعف الثقة بين الأطراف من جهة. ولاختلاف الظرف التاريخي وتشكيك النخبة بدور الدين في الدولة. ولا أحد يمكنه أن يعمى عن ضعف دور الفاتيكان في تحسين واقع أوروبا الحضاري. وبالمثل ضعف الكنيسة الأرثوذوكسية في لملمة بقايا الدولة اللادينية السابقة التي خيم ظلها الحديدي على ثلثي العالم لأكثر من 75 عاما.  ولهذه الأسباب لا أجد أي حل سحري لواقع الحركة الإسلامية الدولية. وبالأخص أنها دائما في ظرف طوارئ أو تأهب عسكري. ومع أنني لست في وارد تحرير صك براءة للجماعات المتطرفة، لكن يجب النظر لكل شيء في سياقه، والابتعاد ما أمكن عن تشويه سمعة الجهاديين، ومناقشة اخطائهم الجسيمة بالعقل والمنطق. فظرف الطوارئ لا يضمن لأحد الرخاء ولا السعادة. وهذا يصدق على الجميع، الأعداء والأصدقاء. وما ارتكبته دولة الخلافة من فظاعات يذكرني أيضا بالمصير المرعب الذي لاقاه رموز النخبة الثقافية في عصر الإسلام الذهبي مثل الحلاج (858-922) وابن المقفع (724-759). وكلاهما ترك خلفه إرثا وسيرة شخصية تشابه لحد كبير بملابساتها أسماء تراجيدية لا تعرف أين كان الخطأ الذي وضعها في نقطة عمياء من المجتمع، وأنهى حياتها بوقت مبكر، حتى تحولت لتفصيل طارئ يحسب للتاريخ السياسي الدموي الذي رافق صعود وتطور الأمة.  ولا يغيب عن الذهن كذلك إعدام مؤلفات ابن رشد وهو من المفكرين الوسطيبن إن نظرنا لكتاباته بمعزل عن الخلفيات السياسية. ولذلك لا أستطيع أن أتهم التطبيق، ولكن التركيبة السياسية والقبلية التي لم تبرأ منها هذه الأمة حتى في أفضل مراحل تطورها.  حتى أن أنجح نماذجها – وهو الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا لجأ لعدة تطهيرات في الجيش ولعدة تعديلات قضائية استهدف بها تقوية دور الرئيس لتحويل الحكم إلى رئاسي، على النمط الفرنسي وليس البريطاني. وهذا أول خروج على السيناريو الأوروبي وعودة قوية للسيناريو الكمالي رغم نزعته الشوفينية والدكتاتورية، والتي تهدد أساسات السلطة الراهنة. وكذلك هو حال بقية الإسلاميين. فهم في ظرف أمني طارئ، ليس لمواجهة العدو القومي، ولكن للتحسب من أعداء الداخل. وينطبق ذلك على دويلات عشوائية مثل دولة الخلافة في بلاد الرافدين – أسقطها التحالف الأمريكي، وإمارة إدلب – تحاصرها موسكو من 3 أطراف. وحكومة حماس في غزة ثم حكومة الحوثي في صنعاء. كلها تعاني من عقوبات دولية وحصار خانق. ولا يبدو أن توجهها الإسلامي يحمل أي وعد بخلاص عاجل لشعوبها، فما بالك إذا تكلمنا عن مساحة واسعة تغطي المنطقة التي تتكلم بلسان عربي. وظرف الطوارئ لم يعلق أحكام القرآن فقط، ولكن قاد إلى تعليق نهج الإسلام جملة وتفصيلا، والاحتكام لمجتمع المدينة في مرحلة القوة لا يخدم فلسفة واتجاه هذه الحركات بسبب اختلاف ظرفين أساسيين، وهما المكان والزمان. ولا يمكنني أن أفهم دواعي هجرة هذه الدويلات الإسلامية من منابعها في الحجاز وشبه الجزيرة إلى بلاد الشام أو وادي النيل. وإن لم يكن السبب هو صعود منطقة الخليج بالمصعد الأمريكي، فهو ولا شك هبوط واقع الأنظمة الوطنية بالمصعد الروسي. ولا يمكنني الاستطراد. لأن المسألة لا علاقة لها بالأخلاق أو العقل، وإنما هي رهن بالواقع التنافسي لحرب باردة حتى لو هدأت فهي مستمرة بالخفاء. وفي ظرف طوارئ من هذا النوع ماذا يمكن أن يفيد التعقل. وما دور الأخلاق. فالحروب كلها عديمة الاخلاق ولو نسبيا، وتفرض قوانين اقتصاد حرب مسؤولة حتى الآن عن تخريب وتجويع شمال إفريقيا العربي بالاضافة إلى آسيا العربية (معروفة باسم شرق المتوسط). وينقل الغرباوي بهذا المعنى عبارة للجابري يقول فيها إن الأمة الإسلامية معروفة بالفقه مثلما يعرف اليونان بالفلسفة. وهذه مثلبة تقيد العقل بأحكام فقهية تضاعف من أعباء الحياة ومن تجريم التفكير الحر، والكلام للغرباوي أيضا.

*مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام. الجزء 9  من مشروع “متاهات الحقيقة”. منشورات دار أمل الجديدة. دمشق. 2024. 422ص..

إقرأ أيضا