جداريات المعممين وصمت الهوية

تاريخ بغداد هو سلسلة من جدليات لا تنقطع. ودائماً يكون الجدل المتواصل عنواناً لهوية مكتملة المظهر. ومعيار الاكتمال يعبر عن شغف مغموس بعشق المكان. وبما أن المكان يصــنع الحادثة، بقيت بغداد منذ تأسيسها طاقة كبيرة تحتكر أنتاج المادة التاريخية ومنبراً لسرد الحكايات بمتعة لا تضاهى.

لكن حكايات بغداد اليوم لا تملك شحنة السرد ومتعة القراءة، لأنها أصبحت حكايات ملوثة بعبث أبطال أغبياء يثيرون الغثيان. إنهم الأبطال الذين صنعهم مجهولو الهوية وأنتجتهم لحظة تاريخية مأزومة. فتأسسوا بجرة قلم، وفرضوا فرضاً على جغرافيا مكان لا يناسب مرجعياتهم القائمة على أسس الفلكلور الديني الذي يسمونه فكراً.

كيف يكون لصاحب مرجعية فلكلورية أن يصبح رجل دولة مدنية ويدير مؤسساتها وعينه على الحلال والحرام؟! دينه غيبيات مكتسبة من أصول الصحراء وحروب التكفير وقطع الرقاب. لا شك أن الخديعة قد وقعت ودخل الناس في جعجعة الانتخابات وقد أفرزت هذه الانتخابات وجوهاً غاضبة ومتجهمة تعلق سلسلة مفاتيح العاصمة في رقبتها وتتحكم فـــي دروب مدنيتها الأصيلة. ومهمة أدارة مدينة تعانق الحياة مثل بغداد ليست بسهولة إدارة مجموعة مليشياوية تجيد صناعة الرعب. وبالتالي هي مهمة إنتاج حياة وليست مهمة لتسكين الحياة بحقنة الدين والمذهب. 

إن العلاقة بين محكوم يسعى لترسيخ قاعدة للتمدن، وحاكم مهموم بــصراع المذاهب الهرمة هي علاقة تنطوي على مخاطرة كبيرة، وربما تعني في أسوأ فصولها قيام دولة الدم. فالمحكوم معني برفض الجداريات الهائلة للمعممين التي انتشرت في كل مفاصل بغداد وفــي كـل مفترق طرق وكل شارع. والتي يعتبرها الحاكم تمثل رموزه الدينية التي يحرم المساس بقدسيتها، وبالتالي ليس من أخلاقيات هذا الحاكم شرعاً، رفع هذه الجداريات (المزينة) بالحناء والخرق الخضراء. وإذا رجم المحكوم أصنام الحاكم فهذا يعني أن الصنمية الجديدة قد باتت في خطر، وأصبحت مفاصل الصراع في مفترق طرق.

وما يميز المشهد العبثي لبغداد اليوم هو طغيان ظواهر التدين المفرطة والطقوس المبالغ بها، والتي تصل أحياناً حد الاستهتار بمشاعر الناس وخلفياتهم الاجتماعية والدينية المختلفة، كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع وحماية الحاكم. أزبال (المشايّة) تصبح تلالاً، والشوارع تهجر وتصبح بغداد حديقة ميتة ما أن تحل مناسبة مقتل الأمام الكاظم السنوية. وليس أسوأ من ذلك طقوس المناسبات الدينية المعروفة التي تتكرر كل عام. كان من الممكن تبرير تلك الطقوس لـو تمت ممارستها في مدينة النجف مثلاً. أما أن تعمل أيديولوجيات حكام بغداد على تفريغ المدينة من محتواها المدني والتاريخي بضخ كل ما من شأنه مسخ وجهها الحضاري وتحويله إلى مجرد وجه نكرة فهذا يعني موتها سريرياً، أو على الأقل تركيعها لأيديولوجيا مسكونة بهاجس الانتقام من كل مظهر مدني.

بهذا الانتشار المروّع لجداريات المعممين وتماهي مظهرها القبيح مع مظهر أزبال المشاية تطرأ مفارقة جماليات الشارع التي باتت من أكثر هموم المواطن البغدادي، والتي يوازيها حتمــاً هم الأمن المفقود. فسمة أي مدينة تحترم نفسها هي تحويلها القبيح إلى جميل. ولنا في مدن القارة العجوز أسوة حسنة. فهناك آلاف الشوارع القديمة والمنهكة تحولت بلمسة من (غيرة الشرفاء على أوطانهم) إلى لوحات فنية عظيمة ونماذج حقيقية لدارسي علم الجمال.

وربّ معترض يقول ان هؤلاء المعممين هم رموز ويجب تتويجهم بجداريات وصور من قبل مريديهم وأتباعهم. ولا اعتراض على رمزيتهم فهم بالنتيجة قدر من أقدار هذا الوطن الجريح. لكن الاعتراض والاحتجاج المشروع يكمن في رفض ترسيخ ثقافة جداريات رجال الدين بقوة السلاح. فالأماكن العامة هي ملك للدولة العراقية، وبالتالي فهي ملك لألوان الشعب العراقي وليست حكراً لفئة طائفية أو مليشياوية.

إن انتشار صور وجداريات مقتدى الصدر، على سبيل المثال، في بغداد يبرره أتباعه على أنه حق من حقوقهم كون الرجل يمثل بالنسبة لهم بطلاً قاوم الاحتلال بقوة السلاح، لكن بالمقابل ستمنح هذه الشرعنة حقاً مكتسباً للجانب الآخر. بمعنى إذا ما اكتسبت جداريات مقتدى الصدر شرعيتها من قبل فصيل شيعي معين سيكون من حق فصيل سني بناء جداريات للزرقاوي كونه يمثل رمزاً مقاوماً بالنسبة لهم أيضاً. وما أكثر الرموز الملتحية والمعممة لدى كلا الفصيلين.  

وبالتالي فأن شيوع ظاهرة النُصب والصور العملاقة لرجال الدين وغيرهم من سياسيين طارئين تمثل في أقصى حالاتها همجية لا تقل في قسوتها عن همجية عبادة الأفراد وتقديسهم.  

ونقد هذه الظاهرة يتطلب تشخيص الخلل أولاً، هل هو خلل فكري أم اجتماعي، أم هو انحراف ديني ومذهبي. ولنا في ذلك وقفة أخرى. 

* كاتب وقاص عراقي

إقرأ أيضا