«مريم العذراء» شاهدة على الهجرة من بابل.. الكنيسة الوحيدة في أرض الحضارة

كانت الديانة المسيحية حاضرة في العراق منذ القرن الأول لانتشارها، وأول من اعتنقها هم الآشوريون، وعلى الرغم من ذلك إلا أن اسم “الكنيسة البابلية” أصبح دلالة للمسيحيين العراقيين، غير أن المفارقة أن محافظة بابل والتي تضم أشهر المدن التاريخية والأثرية في العالم تضم أقل عدد من أتباع هذه الديانة منذ زمن طويل ولم يتبق منهم سوى عوائل معدودة على أصابع اليد الواحدة.

ومع أن التعايش بين المسيحيين والمسلمين في بابل لم يشهد توترات أو مصادمات، إلا أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية التي مر بها العراق في القرنين الماضي والحالي جعلت هذه المحافظة شبه خالية من أتباع الصليب.

ويقول مسؤول كنيسة مريم العذراء في مدينة الحلة، مركز محافظة بابل، حميد خضر، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “الكنيسة تم وضع حجر الأساس لها في العام 1987 وهي الوحيدة في الفرات الأوسط، وتولى الكلدان الكاثوليك تشييدها وسط مدينة الحلة وجرى افتتحاها باحتفال كبير حضره رئيس الطائفة البطريرك مثلث الرحمات يوسف الثاني شيخو في شهر تموز يوليو من العام المذكور، وأشرف على بنائها وتأثيثها الراحل المهندس إلياس بطرس وساهم أيضا بجزء كبير من نفقات الإنشاء والتأثيث”.

ويضيف “كان عدد العوائل الموجودة في حينها 315 عائلة لكن في العام 1994 بدأ العدد بالتناقص لعدة أسباب، أبرزها قلة التعيينات والدرجات الوظيفية المخصصة للديانة المسيحية، لذلك الكثير من المسيحيين هاجروا خارج أو إلى شمال العراق، وكانت تربط العوائل المسيحية مع المسلمين علاقات طيبة ولغاية العام 2016 لم يتبق سوى 11 عائلة فقط، وحالياً خمس عوائل، والسبب قلة القداس في الكنيسة والذي يصادف كل يوم أحد من كل أسبوع”.

ويشير إلى أن، تم تطوير الكنيسة لتشمل إضافة قاعة كبيرة وغرف للضيوف ومكتبة وقاعة للمطالعة بتمويل من محافظة بابل، وتضم الكنيسة أيضا مكتبة للتعليم المسيحي يوجد بها كتب وقص للأطفال والأناجيل وتعليم الأطفال الطقوس المسيحية للصلاة”.

ويؤكد خضر “العوائل المسلمة تشاركنا الأعياد والمناسبات خاصة في يوم الميلاد، وعادة قداسنا في المحافظات الجنوبية يكون يوم الجمعة لعدم منح الموظفين المسيحيين عطلة في يوم الأحد، بينما في المحافظات الشمالية لديهم عطلة الأحد، وقد سميت الكنيسة باسم السيدة العذراء لأن اسم مريم محبب في محافظات وسط وجنوب العراق”.

ويلفت إلى أنه “إذا تزامنت بعض المناسبات الدينية الحزينة لدى المسلمين امتنعت الكنيسة من الاحتفال بميلاد المسيح عليه السلام ولم تقم القداس أو الاحتفال تضامنا مع المسلمين، وقد حدث هذا الشي مرات عدة”.

ويشكو خضر من “قلة دعم الحكومة المحلية فهو يقتصر فقط على أعياد رأس السنة الميلادية ويتمثل بزيارات من المسؤولين المحليين للتهنئة وتقديم الورود، فيما تأتي العوائل المسلمة لإشعال الشموع وطلب النذر من السيدة مريم العذراء”.

ويشيد بأنه “في العام 2014 بعد ورود تهديدات طالت المسيحيين إبان التهديد الإرهابي لداعش قامت مجموعات كبيرة من أبناء مدينة الحلة بالوقوف أمام الكنيسة حاملين لافتات وشعارات مكتوب عليها (كلنا مسيحيون) وترفض الإساءة للمسيحيين او التعرض لهم، كما أن قيادة شرطة بابل وفرت الحماية للكنيسة”.

يشار إلى أن المسيحيين العراقيين كانوا ينتشرون في جميع المحافظات من دون استثناء حتى ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن الثقل الأكبر لهم كان في بغداد ونينوى والبصرة وبابل ودهوك، لكن أعدادهم بدأت بالتراجع منذ اندلاع الحرب مع إيران، واشتدت هجرتهم خارج العراق خلال عقد التسعينيات إبان الحصار الاقتصادي والتضييق عليهم في مجال العمل من قبل النظام السابق، ثم بلغت الهجرة أشدها بعد ظهور التنظيمات الإرهابية وخصوصا تنظيم داعش في العام 2014.

وتعاني أغلب الكنائس من الإهمال، بالإضافة إلى صعوبة افتتاح أو بناء معابد جديدة، وهو أمر متوقف منذ سنوات طويلة، فيما تحولت بعض الكنائس في بغداد إلى مخازن للتجار بعد إهمالها وتركها منذ سنوات.

ويوضح المواطن المصري، مجدي المصري، الذي يعمل في الكنيسة، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أنه “قدمت من مصر إلى العراق قبل أكثر من 30 عاما واخترت البقاء في محافظة بابل بعد هجرة غالبية المسيحيين، لكون مقيما في كنيسة مريم العذراء الوحيدة في بابل والفرات الأوسط وأقوم بخدمتها وإدامة صيانتها، ولم أتقاضى أجرا أو راتبا من أي جهة، وقد تعرضت الكنيسة إلى الضرر في السنوات السابقة بسبب الإهمال ونحن نفتقر للدعم الحكومي وأنا أقوم بالترميم على نفقتي الخاصة”.

ويلفت إلى أن “المسيحيين في الحلة يمتهون بعض المهن منها الطب والتمريض النسائي وهذا يعود للتعليم العالي الذي امتازوا به، لكن أعدادهم تراجعت بشكل كبير”.

وبحسب المصادر التاريخية فأنه خلال القرون الأولى من دخول الديانة الإسلامية إلى العراق، كان المسيحيون يشكلون الأغلبية من السكان وشغل الكثير منهم وظائف مرموقة خلال الخلافتين الأموية والعباسية، ولغاية تأسيس الدولة العراقية الحديثة تبوأوا مناصب إدارية وثقافية وعلمية مهمة وكانت علاقاتهم وطيدة مع الديانات العراقية الأخرى.

وكانت “العالم الجديد”، قد كشفت في كانون الأول ديسمبر 2020، عن تناقص أعداد المسيحيين في جنوب العراق بشكل كبير، وبحسب تقريرها السابق، فإن قرابة 150 عائلة بالبصرة، أحيت قداس الميلاد الأخير في الكنائس: الكلدانية، الأرمنية، السريانية الكاثوليكية، أما في كنائس السريان الارثوذكس، الانجيلية المشيخية الوطنية، فقد أحيت القداس فيها قرابة 10 عائلات فقط، فيما تحوي ذي قار عائلة مسيحية واحدة، وفي ميسان أحيت 14 عائلة القداس.

وبهذا الصدد، تعرب الطالبة الجامعية عبير محمد، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، عن حزنها لتراجع أعداد المسيحيين في محافظة بابل، بالقول “نأتي لزيارة الكنيسة للتبرك والدعاء من السيدة مريم العذراء، وهو أمر اعتدنا عليه منذ سنوات طويلة”.

وتتابع “لكن مؤلم ما نشاهده الآن من خلو الكنيسة من المسيحيين ونتمنى عودتهم، كانوا يملءون الكنيسة في أعيادهم ومناسباتهم والتي كنا نشاركهم بها، أما الآن فالوضع اختلف كثيرا”.

وبحسب إحصائية نشرها الموقع الرسمي للبطريركية الكلدانية في 26 تموز يوليو 2023، فإن عدد المسيحيين العراقيين حتى العام 1987 كان مليونا و262 ألف نسمة، أي ما يعادل 4 بالمئة من عدد نفوس العراقيين، وقبل العام 2003 كانوا نحو مليون ونصف مليون من 25 مليون عراقي.

من جانبه، يطرح القس فراس، مفهوما يؤمن به المسيحيون، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، مفاده أن “السيد المسيح ليس للمسيحيين فقط وأنما لكل الطوائف وهذا ما نشاهده في كنيسة مريم العذراء في بابل، وخاصة في أعياد الميلاد”.

ويركز على أن “المسلمين يأتون للكنيسة لتهنئتنا في الأعياد والمناسبات وسط أجواء من المحبة والألفة، وهذه رسائل أمن وأمان يبعثها المجتمع الحلي للعالم ومحافظة بابل قدوة للمحافطات الأخرى”.

وبالرغم من غياب إحصائيات دقيقة عن عدد المسيحيين في العراق بسبب عدم إجراء تعداد سكاني منذ سنوات، فإن هناك حاليا ما بين 300 إلى 400 ألف مسيحي في مقابل مليون ونصف المليون قبل العام 2003.

إقرأ أيضا