فرج الله.. والمسؤول

من وسط الحشد المهرول المحيط بموكب المسؤول، استطاع فرج الله الچايچي أن يقترب من سيارة المسؤول، التصق بها، وظل يهرول معها، وهو يضرب بأصابعه بلطف على زجاج باب السيارة الخلفي، راسماً انكساراً على وجهه المائل، باعثاً قبلات توسل الى المسؤول لكي يمنحه فرصة الكلام، ولم تفلح الحماية من زحزحته، فاضطر المسؤول الى مناشدة سائقه للوقوف. أنزل المسؤول اصبعين من الزجاج فقط، فأراد فرج الله أن يختزل نفسه وينحشر في الفتحة للتواصل مع من في الداخل، سأله المسؤول عن الموضوع، فأجابه بسرعة ودموع.. بانه موجوع، وحاله خراب، ويرغب الوصول، لمكتب المسؤول، طمأنه المسؤول، وأعطاه كارتاً للدخول.

استلم الكارت بعنف وابتعد عن المشهد قليلاً قليلا، فرحاً، لا تسعه الدنيا، بهذا المنجز الكبير، فسيقابل أخيراً، مسؤولاً في الدولة. رجع الى ركنه المهتوك الصغير، وقد استبيح شايهُ، وماءهُ، وتناثرت أرباع الدنانير في المكان، ولم يعبأ بذلك، فالقادم سيكون أجمل، وستنحل عقد حياته، ويصير إنساناً وسط هذه الجماهير.

لملم أرباع الدنانير المبللة، واستراح على الدكّة وهو يتأمل الكارت، قابضاً عليه بأصابعه، ويضرب به أطراف أصابع كفه الآخر، إنها ورقة اليانصيب الفائزة التي نزلت عليه من السماء.

أقفل بسطته قبل الغروب في ذلك النهار، وعاد الى سكنه وسط العشوائيات، فتحت له زوجته الباب، أخذها بأحضانه فوراً، ينشر عليها القبلات، يدور بها في فناء الدار، وهي مستغربة لهذا الحال، وهذه القبلات التي نستها من زمن، فمن زمن بعيد لم يقربها فرج الله الحبّاب، أراها كارت المسؤول، وبشّرها بالخبر المعلوم، ولقاءه المرتقب في المنطقة الخضراء، مع فخامة السيد المسؤول.

لم يأكل كثيراً من بسيط الطعام، فهو ممتلئ بالعنفوان، استرخى على الفرش وأدار المذياع، وطار من المكان والزمان الى اللامكان واللازمان، وهو يسمع ماجدة الرومي تحكي لسان حاله مع المسؤول .. ( يُسمعني حين يُراقصني.. كلمات ليست كالكلمات.. يأخذني من تحت ذراعي.. يزرعني بـإحدى الغيمات).

: حقاً سينتشلني المسؤول من بؤسي ويضعني في إحدى الغيمات.

نام تلك الليلة بملابسه المعتّـقة في مكانه، وسيجارته انطفأت وتحررت من بين أصابعه التي ارتخت مع رقاده، حلم باللقاء وبالدخول الى قصر المسؤول، وكيف تستقبله الحمايات والحشود، والسماء تنثر عليه الورود، والى الباب تقدم المسؤول، تواضعاً منه لمقدم فرج الله الجميل، أخذه بالأحضان، وأجلسه على يمنيه في الصيوان، صبّ له بيديه قدح الماء، ثم قام المسؤول ووقف خلف فرج، نشر أصابعه على كتفيه برقة وبدأ بالمساج، طلب من فرج الله أن يسرد الطلبات، المسؤول يدلّك كتفيه ورقبته، وهو يسرد ما تيسر من طلباته، وخادم في حضرته يكتب كل ما يقول، ثم مدّ المسؤول اصابعه ليجرّ أنفه بقسوة، فانتفض وتحرك حتى صحا من منامه، وابنه المعاق جالس عنده يداعبه.

طلب من زوجته أن تذهب الى الجيران لتستعير منهم قميصاً وبنطالاً يليق بمقابلة السيد المسؤول، ولمّع حذاءه بخرقة وبصاق، قبّل ولده واحتضن زوجته وخرج بدعاء منها وطاسة ماء تريقها خلفه لتحرسه.

في الطريق الى المنطقة الخضراء، يعيد مع نفسه الطلبات (سيدي، تقاعد ما عندي، ابني معوّق ومحتاج عملية، أجار بيتي المهتوك بالكاد أسدّده، ومتخلف عن سداد ستة أشهر، أبو المولدة يطلبني، ديوني الأخرى كثيرة، زوجتي تغسل ملابس الجيران مقابل دنانير قليلة، لم نأكل اللحم من سنين، محرومين من العيش كبشر، لا نلمك رصيداً لساعة عسرة، … ) ويستفيق من طيفه وسط الكيّة لينزل قرب المنطقة الخضراء، يتمشى نحو بوابتها المهيبة المحصنة بجيش من الحماية، يقترب أكثر فأكثر حتى يدخل منطقة السؤال، يُبرز الكارت من جيبه وقد اصابه بعض اللوث، يمسحه بلسانه ويُجففه بقميصه، حتى يصله الدور في طابور الدخول.

: تفضل 

يريه الكارت، ويهمّ بتجاوزه، فيلتقطه الحرس، ويتقدم آخرٌ نحوه، ليمنعاه من المرور، يقول له الحرس، بعدما يقرأ الكارت ويقلّبه: إي وشنو هَسّه؟ فيستغرب فرج الله من هذا السؤال، راغباً المرور الى الأمام، لكن الحرس يدفعه هذه المرة بقوة ويسقطه أرضاً، ويصيح به: امشي وَلّي يَـلّه، يا كارت؟ يا مسؤول ؟ احنه بحالك هَسّه؟ 

يتفاجأ فرج الله بهذا الجواب، وينتظر خارج الطابور، قرب مخرج السيارات من المنطقة الخضراء، علّه يصادف موكب السيد المسؤول، لكن حمايات الطريق تصرخ عليه، وتطالبه بترك المكان، فيبرز لهم الكارت مبتسماً، يطمأنهم بأنه من أهل الدار، حتى صادف خروج رتل من السيارات المصفحة السوداء، عبرت البوابة لتنطلق الى الشارع، فأسرع نحوها فرج الله، وقصد أول السيارات، ولم تك الّا لحظات، حتى هجمت الحمايات من كل مكان، تناوشوه كما النسور الجالسة على فريسة في الجبال، ضرباً ورفساً وكلمات لائقة وغير لائقة، وهو لا يملك فسحة لقول كلمة واحدة، سَحلوه وأدخلوه في كرفان قريب، استمر الضرب والشتم على فرج الله، والحماية فرحة بالقاء القبض على الإرهابي المنتمي لأحد دول الجوار، فلطالما لم يتكلم، فهو يخفي جنسيته، لكن فرج الله فقد قدرته على النطق مع أول پصطال تناوله على فمه، وتكحلت عيناه بلون المنطقة الخضراء، لقد ضُرب فرج الله حتى خرج منه صوتٌ لا يخرج في كل مكان، تمزقت ثيابه، فقد حذاءه، التصق بالأرض مغشياً عليه، حتى أتى حرس الطابور بعد ساعة، وأبلغ السادة الحضور، بأن الموما إليه عراقي، وكان يرغب بزيارة السيد المسؤول، فاطمأنوا وحملوه ورموه على قارعة الطريق جثةً هامدة.

استفاق فرج الله قبل الغروب، يتأمل السابلة والسيارات، إذن، لم يزل على قيد الحياة، ثم رفع رأسه الى السماء، فوجدها صافية خالية من الغيوم! قام متعثراً والتفت الى حماية المنطقة الخضراء، وهم مشغولون بالتفتيش وضبط المكان، أرسل اليهم غضبه همساً (الله لا يرضه عليكم، شگول لـمّي من أروح.. انكسرت الشيشة!) لكن تبين إنها أغنيةٌ للحاجة ساجدة عبيد، فعقله الباطني رفض التجاوز على هؤلاء حتى همساً.

رجع الى البيت مكسوراً، سيراً على الأقدام الحافية العرجاء، فلقد ضاعت دنانيره القليلة في ملحمة ذات الصواري، ومن بعيد رأى زوجته وهي تحمل ولده، واقفة بباب الخيمة، تنظر إليه وهي مذهولة، صاح بأعلى صوته..

: أما من مغيثٍ يغيثنا؟ أما من مجير يجيرنا؟ أما من طالب حقٍ فيذود عنّا؟ 

Ayoobeat@hotmail.com

إقرأ أيضا