ترجمة جديدة لكتاب (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)

صدر حديثا في سلسلة “تحديث التفكير الديني”، التي يصدرها مركز دراسات فلسفة الدين، كتاب الشيخ محمد حسين النائيني “ تنبيه الأمة وتنزيه الملة”. والنائيني فقيه وأصولي ومرجع شهير، واستاذ لجيل من الفقهاء والأساتذة المعروفين في الحوزة العلمية في النجف، ممن أضحوا مراجع للشيعة في مرحلة لاحقة، مثل السيد أبو القاسم الخوئي وغيره.

اشتهر النائيني بإجتهادات هامة في أصول الفقه، كما تميز بتجديده للفقه السياسي،

لكن منجزه الأخير حجب إبداعاته البالغة الأهمية في أصول الفقه، واختُزل النائيني لدى الباحثين والدارسين خارج الحوزة بفقهه السياسي، بل برسالته “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”.

وهذه الرسالة أحد أهم رسالتين صدرتا خلال المشروطة، وعبرتا بوضوح لا لبس فيه عن الموقف الرافض والموقف المؤيد، لتدوين الدستور الحديث وبناء وإدارة الدولة على أساسه.

ألّف النائيني رسالته استجابة الى نقاشات وجدالات وتساؤلات ومعارك فكرية، وفتاوى فقهية متعارضة، بين أنصار المشروطة ودعاتها، ومناهضيها ممن يعبر عنهم: أنصار “المستبدة”، فيما يسمون هم أنفسهم “المشروعة”.

«تنبيه الأمة وتنزيه الملة » هو النص الوحيد من كل تلك الكتابات الذي اخترق الزمان، وتحوّل فيما بعد الى نموذج إرشادي، ومنبع إلهام للكتابات والرؤى والآراء اللاحقة في الفقه السياسي الشيعي. يمكننا ملاحظة تأثيره في «دستور » جمهورية ايران الإسلامية، وبعض الآراء في الفقه السياسي للسيد محمود الطالقاني، والشيخ مرتضى المطهري، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشيخ

حسين علي المنتظري، وأخيرا السيد علي السيستاني.

نظرا للمكانة الفقهية والأصولية المرموقة لمؤلفه، تعرض “تنبيه الأمة” لقراءات وتأويلات شتى منذ صدوره، ولعل أشد تلك التأويلات تحريفا هو ترجمة صالح الجعفري للمرة الأولى لهذا النص، ونشره على حلقات في مجلة العرفان اللبنانية عام 1935، وأعادت نشرها مجلة الموسم، في عددها  الخامس سنة 1990. إذ إلتبست مصطلحات ومفاهيم وآراء النائيني في هذه الترجمة، بنحو أصبح النص مشحونا برؤى ديمقراطية، فقد تكرر هذا المصطلح لدى الجعفري في موارد متعددة من النص المُعرّب، في الوقت الذي لم يستخدمه النائيني أبدا في “تنبيه الأمة”، بل ان مفهوم

الديمقراطية بفلسفتها المعروفة في الفكر السياسي الحديث، ونمط الحريات السياسية والاقتصادية والعقائدية والشخصية، والفردية ومركزية الشخص البشري في العالم، لم يكن مُفكّرا فيه وقتئذ في الحوزة العلمية في النجف.

مازالت ترجمة الجعفري مرجعا للكتابات العربية عن النائيني وفكره السياسي، واسقاط مفاهيم ومقولات ديمقراطية على تفكيره، وكأنه فقيه ليبرالي، من دون وعي للسياقات الاجتماعية والسياسية التي كُتبت فيها هذه الرسالة، ومنطق الفقه وأصوله وأفق الانتظار الذي كان النائيني يغوص في مدياته.

 

يقول المترجم: د. مشتاق الحلو، عن ميزات هذه الترجمة، مايلي:

1ـ من ميزات هذه الترجمة، المقدمة المسعة لاستاذنا الدكتور الشيخ عبدالجبار الرفاعي التي تصدرت الكتاب، في أكثر من 50  صفحة. وعالجت تحولات “مفهوم الدولة في مدرسة النجف”، ورحلة هذا المفهوم في التاريخ القريب  لمدرسة النجف، وتطور التفكير الفقهي في مفهوم الدولة، منذ مطلع القرن الماضي الى اليوم، من خارج مدونة الفقه النجفية الى داخلها، ثم العودة الى خارجها.

لغة المقدمة الرصينة، وحفرياتها في تاريخ القرن الأخير لمدونة الفقه النجفية، التي توكأت على تخصص الرفاعي في الفقه وأصوله، حالت دون انزلاقه في أوهام تقع فيها أغلب الكتابات المشابهة، بسبب عدم تمكن غالبية الكتّاب من استيعاب المدونة الفقهية ومصطلحاتها.

2ـ ركّزت دراسة الرفاعي على المناخات الفكرية وفضاءات التفكير السياسي، والأفق الذي انطلقت منه الحركة الدستورية. لهذا اضفت مقدمة مختصرة عن مجريات هذه الحركة في ايران، هي أشبه بالببليوغرافيا، حرصا على عدم خروج الكتاب عن كونه ترجمة لأهم نص صدر لفقيه في عصر المشروطة، والذي يعتبر حتى اليوم احد النصوص المؤسسة في الفقه السياسي الشيعي.

3ـ ترجم هذا الكتاب إلى العربية للمرة الأولى صالح الجعفري، وقد نشر ترجمته حلقات متسلسلة في مجلة العرفان اللبنانية، عام 1935، وأعيد نشرها في مجلة الموسم، العدد الخامس (1410هـ). كما ترجم من بعده أكثر من مرة. وحين قابلت الترجمات مع نص المؤلف كلمة كلمة، اكتشفت ان الترجمة الأولى لم تسلم من حذف بعض العبارات، وتحريف المصطلحات، وهكذا لاحظت ان الترجمات اللاحقة لها؛ ارتهنتها تحريفات لمصطلحات ولغة المؤلف الخاصة، التي كانت تعبيرا عن فقاهته وثقافة عصره، فضلا عن وقوعها في أفق رؤية الترجمة الأولى.

من هنا حاولت الابتعاد عن سياقات ونصوص الترجمات العربية، وتعاطيت مع النص الفارسي للمؤلف فقط، لئلا أقع تحت ظلال تلك الترجمات. وحرصت في هذه الترجمة أن أحافظ على اصل النص، وأنقله الى العربية كما هو، بحيث اقتربت بعض الاحيان من الترجمة الحرفية، كي ابقى وفياً للنص؛ شكلا ومضمونا، ولا أجيّر مفاهيمه وكلماته ومصطلحاته لصالح اي فكرة او توجّه. وبذلت جهدا كبيرا في حفظ أدبيات النص وصياغته، ذلك انه مرآة لملامح بيئة سياسية ثقافية اجتماعية، هي بيئة عصر المشروطة، وما تحفل به من نقاشات واشكاليات وصراعات، ونمط تعامل الفقهاء ورجال الدين معها.

4ـ الكتاب مدون بلغة فارسية تعود لأكثر من قرن مضى، صنفه فقيه كبير، وهو وان كانت لغته الأم الفارسية؛ لكنه لم يتلق تعليماً حديث بالفارسية، ولا عاش مناخات الثقافة والتحديث خارج الحوزة. و”تنبيه الأمة وتنزيه الملة” هو كتابه الأول والأخير بالفارسية، ومؤلفاته اللاحقة كانت عربية. لهذا فإن فهمه يتطلب معرفة بأساليب التعبير الفارسية، في تلك الحقبة من تاريخ ايران، ولغة الفقهاء واساليب تعبيرهم الخاصة. فكنت اكرر مطالعة بعض المقاطع عدة مرات، واحاول تفكيكها كلمة كلمة. 

5ـ بعد الفراغ من الترجمة، قابلتها على الاصل كلمة كلمة، اكثر من مرة.كما خضعت الترجمة لاكثر من عملية تحرير ومراجعة.

6ــ كثير من القضايا او المفاهيم الحوزوية يشير لها المؤلف اشارة قد لا تكون مفهومة، لمن لا يتعاطى مع امثال هذه النصوص، لهذا وضعت تعليقة توضيحية في هامشها، وحاولت شرحها بشكل مختصر. جميع الهوامش التوضيحية في النص انا دونتها، بينما يخلو أصل الكتاب من أية إحالة مرجعية او هامش. الآيات والروايات المنقولة دققتها وضبطتها حسب ما جاء في مصادرها، لأن المؤلف في الغالب يذكر مفهوم الروايات لا نصها بالدقّة.

7ــ ترجمتُ رسالة “كتاب تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل” المنسوبة للشيخ فضل الله النوري، وهي تترجم للمرة الأولى، وأوردتها بعد كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”. مع العلم انها متقدمة عليه زمنياً. وحتى لو لم تكن هذه الرسالة للشيخ النوري؛ كما يشكك البعض، فإنّ فحواها واستدلالاتها تعبر عن آراء النوري الموثقة في مجموع خطاباته وبياناته التي أصدرها. ومن يقرأ كلا النصين يعرف بأن “تنبيه الأمة” يرد على ما جاء في رسالة “تذكرة الغافل”، من هنا ينبغي مطالعة “تنبيه الأمة” ومحاججاته في سياق رؤى وفتاوى ومواقف “تذكرة الغافل”.

إقرأ أيضا