استوقفتني هدية حسين في روايتها (ريام وكفى) أكثر من مرة متأملا ومتسائلا.
سألت نفسي ما سبب الحساسية العالية في سرد روايتها هذه؟ لماذا يشعر القارئ بانجذاب إليها وبتواصل عاطفي معها؟ ما الجديد فيها؟ امرأة تحكي قصتها. تحكي ما مرت به في طفولتها ومراهقتها وشبابها ونضجها، وقد شارفت على الخامسة والثلاثين من العمر.
وإذا افترضت أن للقراءة – هذا إذا كانت قراءة عاطفية كهذه التي أتحدث عنها هنا – بداية وتناميا وذروة، فذروة قراءتي لـ(ريام وكفى) جاءت حين أجابت ريام، وهي البطلة والساردة بضمير المتكلم في الرواية، محدثها، الذي سألها عن اسمها في الطرف الآخر من خط الاتصال الهاتفي: كفى، أي اسمي كفى. وحتى يفهم قارئي الآن سر تفاعلي مع هذا الموقف لا بد، بداية، من أن أوضح له الأمور الآتية:
أولا: ريام هو اسم الشخصية الثاني المُحبَب، وليس اسمها الرسمي، لأن اسمها الرسمي هو كفى. وهي لا تحب الاسم الأول لأنه يعود إلى كره أبيها لمجيئها بنتا بعد بنتين سبقتاها هما: هند الكبرى، وصابرين الوسطى.
ثانيا: الاتصال الهاتفي جاء من ريام التي أرادت أن تسأل عن رجل يهمها يدعى مختار الذيب. وهذا رجل يملك مكتبا لبيع الألبسة يشتري من أم ريام الملابس التي تخيطها ويتولى بيعها هو.
ثالثا: بالعودة إلى عائلة ريام، فالأب الآن متوفى بعد أن كان قاسيا على بناته وأمهن، وبعد أن تزوج امرأة ثانية تدعى بهيجة، انجبت له ولدا اسمه محمود سيكون منحرفا. ووفاة الأب وقسوته قبل ذلك وظروف الحصار الاقتصادي جعلت الأم تعمل في الخياطة، وتعلم بناتها المهنة، وتقنع حتى ريام بأن تترك دراستها لتلتحق بالعمل معها.
رابعا: عمل أم ريام مع مختار الذيب جعل ريام تلتقي بنجم الفتى الذي يعمل مع مختار، وتتوهم بداية أنه ابنه، وبعد ذلك تكتشف أنه عامل عنده، وأن له قصة مؤثرة تنتهي بتدمير حياته. تعرف كل ذلك من مختار بعد أن يغيب نجم عن حياتها تاركا أثرا كبيرا في قلبها الذي أحبه.
خامسا: اتصال أم ريام بمختار يجعل الأخير يتعلق بها، ويتمنى أن يتزوجها ويطلب من ريام أن ترى ما إذا كانت لدى الأم أدنى رغبة في الرجل.
سادسا: يتقارب مختار وريام كثيرا لأن كل واحد منهما يرى في الآخر محبوبه الذي لا سبيل إليه، فالأم ترد على تلميح ريام بالزواج بأنها لا تفكر فيه أبدا. ويعلم مختار بموقف الأم من الزواج عموما وليس منه تحديدا، ويستسلم ويحض ريام على تقبل مصير حبها لنجم لأنه يشبه مصير حبه لأمها، فكلاهما محكوم بقوة لا يد فيها للمحب ولا للمحبوب، فنجم ضحية المجتمع الذي لاحقه بذنب لم يقترفه، وهو فرار أمه التي تركته صغيرا مع عشيقها إلى السماوة، وذلك جعله يعيش للكره وللرغبة في الانتقام لا للحب، فهو ينتظر اليوم الذي يكبر فيه، لا ليحب ريام، كما ظنت، أو غيرها، ولكن ليسافر إلى السماوة، ويبحث عن أمه وعشيقها ويقتلهما. وهو ما قام به لينتهي إلى السجن المؤبد.
يبدو لي أن الرواية بلغت ذروتها هنا، أو عفوا القراءة بلغت ذروتها حتى لا أتهم بالمحاباة النقدية، فريام تختار اسمها وتكره الاسم القديم الذي أطلقه أبوها عليها لأنه ازدرائي وعدائي ورافِض لوجودها وغير معترِف به، ولكنها في موقف يدعوها إلى مراجعة ذلك الموقف من الاسم، فهل تذهب في الطريق الذي ذهب فيه نجم ساعيا وراء الكره والانتقام؟
حتما الكره لن يترك مجالا للحياة ولا للحب. وحتما هي لا تريد أن تكرر الفعل ذاته الذي قام به نجم. وهو ما ذهبت إليه فعلا في حياتها. إذ تصر على الحب، وعلى الحياة، وترفض القبول بتسلط أختها هند التي بقيت لها ومعها في البيت بعد انتحار صابرين ووفاة الأم. وتقرر ترك البيت والبداية من جديد، وقبل ذلك الإصرار على كتابة روايتها، وترك مهنة الخياطة.
ربما لا بد من الاعتراف بجميل صنيع مختار معها ذلك الذي نبهها إلى ضرورة سلوك الطريق الآخر، طريق الحياة والمحبة، وهو اعتراف تحتاج معه إلى تصريح من نوع ما، أو تصريح دال، ولا أدل من نطق اسمها القديم (كفى)، وإن من غير وعي، في إشارة إلى أنها صفحت عن أبيها، وقبلت به عبر قبولها بالاسم الذي منحه لها، وكأنها تريد أن تقول للصوت الذي يكلمها على الهاتف، الذي انتظرت أن يكون هو مختار لا من ينعيه لها، إنها استوعبت الدرس جيدا، وإنها اختارت الحياة والفعل، ولذا فهي لا تكره قاتلها المعنوي، ولا تكره أحدا، ولا تحمل أية رغبة في الانتقام.