قراءة في كتاب “الفتنة” لكنعان مكية

 

ليس في وارد اهتمامي تناول التجنيس الأدبي لـكتاب “الفتنة”، من حيث طبيعة أسلوب البناء السردي، وعناصر التكنيك الروائي التي ينبغي أن تتوافر في العمل الأدبي لكي يكون ضمن هذا التوصيف، وفي مشغل السرد نفسه. فهذا الأمر يُجيده المهتمون بالنقد بشكّل أكثر دقّة وتفصيلاً. إن ما جذبني للكتابة عن هذه “الرواية” – الصادرة عن دار الجمل 2016 للكاتب كنعان مكية – هو ما وجدته من لعبةٍ بارعة يخفي فيها الكاتب دوافع قصده بخلط الأوراق، وقدرته على انتقاء ما يراه مناسباً  في لعبته مع شخصيات إفتراضية، يُخضعها لقواعد واقعٍ مرئي، ويرسم لها ملامحها، وسيرة حياتها، ثمّ يقوّلها ما يريد أن يقوله، ويجعلها تتصرف بحسب ما  يفكّر به.

 

وهذا ما قرأته بين سطور الكتاب، حيث أن تدخّل الكاتب – اللاعب في سيرة شخصياته، والتخطيط الصارم للتحكّم بيومياتهم،ومصائرهم أفقد “الرواية” طابعها الحكائي المتحرّر من سلطة الكاتب–المتحكّم. وفيما بعد، حسم الكاتب نفسه جنس مؤَلفه حين كتب ملحقاً بعنوان “هوامش على كتاب الفتنة” الذي حاول فيه تناول الكثيرمن مقارباتالتفكير القريبة من نمطية ولغة الكتابة السياسية والفكرية في التوضيح وإعادة التفسير.

 

إن كون “الراوي وكل أفراد عائلته شخصيات خيالية”، فان المجاز الأدبي يمنحها حرية أوسع في القول والرأي، ويحصّنها ضد أدوات النقد التي تشتغل على تفكيك واقع تلك الشخصيات، والإشارة إلى نماذجها الحقيقة على أرض الواقع، التي يقصدها الكاتب، خصوصاً وأنها تتعامل مع إشكالية أوضاع سياسية محدّد بفترة زمنية، وبتمثيل شخوصٍ بعينهم لهم أدوارهم المؤثرة خلال تلك الفترة، التي تبدأ بإحتلال العراق في العام 2003، والتي لا زالت تداعيات نماذجه السياسية تتحكّم بحياة أبناء هذه البلاد، ومصائرهم.

 

يعتقد الكاتب أن مقتل مجيد الخوئي في 10 نيسان 2003 – وهو يعتبر هذا التاريخ بداية سقوط نظام صدام ليربط هذا اليوم بقتلٍ من نوعٍ جديد – قد أسّس للفتنة داخل البيوتات الشيعية التي تسيّدت المشهد السياسي بعد السقوط، والتي مهدت نشاطاتها وصراعاتها لتدهور الأوضاع في العراق. كما اعتبر واقعة “شنق صدام” في العام 2006، هي بداية انهيار وتداعيات “حكم الشيعة” العراقيين في نظر العالم المحيط بهم. وقد حاول مكية، بذكاءٍ لا يخلو من خبث القصد، أن يربط بين الواقعتين بإظهار المزايا الأخلاقية النبيلة لشخصية مجيد، وتكوين صورة مختلفة لصدام وهو يواجه سجانيه، الذين قتلوا مجيد، “واقفاً بكل استقامة، بكل ثقة وتحدٍ”.

 

وتبدأ هذه الصورة لصدام تترسّخ في ذهن الراوي –ومن سياق خباثة القصد إختاره مكية من العناصر الفاعلة في “جيش الإمام” – حيث يتخيّله الراوي وهو يردّ داخل المحكمة “أنا لن أتجاوب مع هذه المحكمة.. احتراماً للحق، لإرادة الشعب العراقي”. بعد ذلك، يتماهى الراوي مع صدقيّة وقوة يفترضهما لصدام وهو حارسٌ عليه في غرفته القريبة من المشنقة “أعتقد أنه كان صادقاً باعتقاده أنه وحده يخدم الحق، وإرادة الشعب العراقي”. بل ويعتقد الراوي بأن كلمات صدام مؤثرة في الجمهور، لأن ما يشغل صدام هو ” كيف يجسّد تضحيته كي تبقى الأمة على قيد الحياة ” … و ” بموته جسّد موت الجميع”.

 

هل لراوٍ متحرّر من إملاءات الروائي، يعيش في مدينة النجف التي إقتحمتها دبابات صدام تحت لافتات “لا شيعة بعد اليوم”، يمكن أن يفكر بهذه الطريقة، ويرسم مثل هذه الصورة لقاتل أبيه ،وحفّار المقابر الجماعية لأبناء مدينته، باستقلالية عن رؤى هذا الكاتب وما كان يفكر به في زمن الكتابة؟

 

لقد تنصّل مكية عن أفكار “جمهورية الخوف” و”القسوة والصمت” واعتبر نفسه مذنباً يوم شجّع على الحرب التي أطاحت بـ”هذا الرجل القائد الحقيقي المخلص لمعنى القيادة التي آمن بها دوماً”، بحسب رأي الراوي الذي كان بمثابة إناء يستفرغ فيه أفكاراً ورؤى لا يمكن أن تكون له ضمن سياق حياته وعمره. ولا أدري كيف يبني إنسان عراقي مثل هذه الأفكار على صورة الطاغية، وهناك صورة له مغايرة تماماً، حيث تمّ إخراجه من حفرته في تكريت، مستسلماً ذليلاً بين يدي جندي أمريكي يُفلّي لحيته من القمل.

 

وعن النخبة السياسية الجديدة، يركّز مكية في إدانته لهم، بأنهم جاؤوا مع “دبابات المحتل”، وهم ليس أكثر من “مخبرين سرّيين” للمحتل، وللأخير الفضل في تشكيل “مجلس الحكم”، حيث قام باختيارهم بناءً على انتماءاتهم القبلية والطائفية والدينية والعرقية، وكان أغلبهم من الشيعة. وفي هذا الجانب يصف الشيعة، من سكان النجف بأنهم “يخادعون ويشاكسون الغرباء، ويعاملونهم كفرائس يجب الانقضاض عليها”، ويُعزز توصيفه هذا برسالة مسرّبة من والد الراوي الذي كان سجيناً في “الرضوانية”، حيث يرد فيها “هناك بعض الشيعة من حراسنا، وهم جميعاً بدون استثناء الأشدّ قسوة علينا”. وفي هذا حكماً عاماً على الشيعة وليس، كما ذكره من قبل، يخصّ شيعة النجف. ويثير الأمر الريبة، وغموض القصد، حين يقابل هذا بطبيعة طائفة أخرى”، وهناك حرّاس من السنّة [ ….] يظهرون سّراً شيئاً من التعاطف معنا”. ويصعّد من إدانته ليجعل من سلوكيات الشيعة نتيجة طبيعية لاختلال بنيوي في تركيبتهم، وبأن مظلوميتهم “نابعة من خيالهم”، بل وأكثر من ذلك تعبيراً عن حقيقتهم “أن ما يراودهم من أفكار عن العصيان والمظلومية هو الذي يجعلهم يضعون اللوم على حكامهم”. ألا يعني هذا، بعد حديث الراوي عن ريادة صدام في القيادة، بأن تغيير نظام الحكم الدكتاتوري كان نوعاً من أوهام الشيعة، وخيالاتهم المختّلة، خصوصاً وأنهم مجرّد “أفاعي” يجب إعادتها إلى “السّلة التي رُفع عنها الغطاء يوم 10 – 4 – 2003”.

 

 

كنعان مكية
كنعان مكية

 

 

أليس في هذا تباكياً مستتراً على السلطة التي كانت غطاءً حديدياً، لهذه السّلة ،حجب الفضاء الخارجي عن المجتمع العراقي الذي كان معبأً كالقطيع في سلة – سجن النظام الكبير؟ . كيف نفسّر أو نأول بغير ذلك، ومكية نفسه يعتبر بأن آلام ومخاوف الشيعة في زمن الدكتاتورية كانت “تتغذّى على الأكاذيب”. قد يعتقد البعض بجوانب معيّنة من إختلالات جماعة ما ضمن ظروف تأريخية معيّنة، ويكون الخطأ في مثل هذ الاعتقاد، عندما لا تُحسب هذه الظلروف كأسباب، ويتم التعامل مع الإختلالات كنتائج منفصلة، تحدّد طبيعة هذه الجماعة وهويتها. لكن مكية يتجاوز ذلك إلى تعميم ماهو أشمل من الطائفة، حيث الشعب العراقي متهم برمته” نحن شعب مليء بالحاقدين والأنانيين والخونة المستعدين للغدر بأبائهم وأخوتهم وبيعهم للشيطان لقاء مبلغ زهيد “، بل العراق نفسه، برأي مكية، “مجرّد اسم”، وأن ما يعيشه من هشاشة كبلد منقسم، بعد الاحتلال، تجعله “يتطلّع إلى رجل قوي” يُرتّب خارطة انقساماته، وصراع مكوناته. أقول لمكية، قد لا نختلف عن ما آلت إليه أوضاع العراق – بعد 2003 – من أحقاد وخيانات ونزاعات، ولكن كيف حدث كل هذا؟ ومن يتحمّل مسؤولية ما حدث، ويحدث الآن من تدهور في العملية السياسية، وفي بنى المجتمع العراقي ؟ ألم تقل بأن المحتل هو من أوجد مجلس الحكم، وبنى تشكيلته على أسس دينية وطائفية وعرقية، وبأن أعضاء النخبة السياسية الجديدة هم مخبرون سرّيون، ومتعاونون معه؟ وأنت نفسك أين كان موقعك بين هؤلاء، وأيّ موقف كان لك منهم كمتعاونين مع المحتل؟ وهل كتبت، ورسمت صورك عن العراق وشعبه في مركبة فضائية مغلقة، وبعيدة عن الدبابات الأمريكية؟

 

ثم هل أن عدم السّوية الاجتماعية، وإختلال البنيّة النفسية والأخلاقية للأفراد، حقد وأنانية وخيانة، تولد فجأة في ضمن فترة زمنية قصيرة، وتتحول إلى ظواهر يُعرّف بها المجتمع وأفراده؟ وفي حالة الاعتراف بذلك، أين يضع مكية تأكيده على أنه من جيلٍ “تسيس على هزيمة حرب حزيران”، وأضفى الشرعية على حكامٍ إنتهكوا حقوق الناس، والمجتمع المدني، في ظل “شعارات طوبائية”، خلال الثلاثين سنة التي مضت؟ يجيب مكية عن هذه الإشكالية الكبيرة في موقف المثقف، ومسؤلياته الفكرية والأخلاقية التي سيكون لها تأثيرها في حاضر المجتمع ومستقبلة، “كل هذا قد دخل التاريخ”.

 

لِمَ يذكر مكية انتهاكات تلك الأنظمة المستّبدة، وشرعنتها من جيله المسّيس بالهزيمة، ليقول لنا بعد ذلك، بأن كل ذلك صار جزءاً من التاريخ . وكأن التاريخ دائرة مغلقة على الماضي. وتلك فكرة فيها الكثير من المفارقة، ومحاولة طمس الحقائق، وتجارب التاريخ التي لطالما رسمت الكثير من ملامح الحقب التي تليها، وتتعاقب في التأثر والتأثير. ومكية في هذا، يناقض أيضاً ما كان تصّورَه عن صدام كامتداد للتاريخ العراقي.

 

يؤكد الكاتب، عبر شخصية الراوي، على أن كل الاختلالات المجتمعية والأخلاقية في العراق قد حصلت بعد 2003، دون إشارة إلى ماكان يعيشه المجتمع العراقي في ظل “جمهورية الخوف” التي كانت تفرض “الصمت” بأساليب “القسوة” المفرطة، وبحسب ما نظّر له مكية في زمن النظام السابق، كما لو أنه يريد، بتركيزه على اختزال ما حدث من اضطراب وخراب في فترة محدّدة، أن يطعن بحقائق “الذاكرة” التي عمل على أن تكون لها “مؤسسة” تهتم بنشر ما كان يقوم به ذلك النظام من جرائم وانتهاكات بحق الشعب العراقي. وقد تجسّد هذا الطعن بطريقة فيها الكثير من حسابات المراوغة، حينما قوّل مكية أب الراوي، وقد اختاره كشخصية يسارية تمتلك في الذهن الثقافي العراقي صدقيّة أخلاقية ونضالية، موقفاً متسامحاً مع جلاديه في سجن الرضوانية، عبر رسالته إلى زوجته التي هربّها سجّان “سنيّ”، حيث يدعوها إلى مسامحة من كانوا يعذبّونه هناك، وأن تعلّم أبنه أن يسامحهم أيضاً. وهنا يحاول الكاتب أن يجد شبيهاً له في طعن الذاكرة، وليس غير السياسي اليساري من يكون أنموذجاً مؤثراًفيما يطمح إليه مكية، خصوصاً وهو يطلب مسامحة الجلاد الذي مازال يئن كضحية تحت هراواته!.

 

يحاول الكاتب أن يستغفل القارئ، ويخرّب ذاكرته بمناخات سرديّة متخيّلة، يفحمها في ذهنه كنمط حياة وأفكار مجسّدة بشخصيات لها حضورها اليومي في حياة هذا القارئ .فحين يتماهى شاب شيعي له موقع مميّز في ” جيش الإمام ” مع أفكار صدام المفترضة، بسياقاتٍ جديدة مقنعة لعقله، وتلامس بجديّة روحه المضطربة. وحيث المناضل اليساري يتنازل عن حقه في القصاص من القتلة، ويطلب مسامحة جلاديه في زمن تعذيبهم له . وعندما يحتفظ الشاب الشيعي منتصر ببسطال أبيه الذي تركه من الحرب مع ايران، ويفخر بدوره في تلك الحرب “قاتل أبي من أجل بلده في الحرب الكبرى مع ايران، ولهذا السبب سماني المنتصر، بعد انتصارنا الكبير في تلك الحرب”. ما الذي يتشكّل في ذهن القارئ وهو يغربل ويفرز مثل هكذا مشاهد سوى أن الكاتب يترّحم الآن على “قائد قوي” قاد الشعب يوما بفخر دفاعاً عن بلده، واستطاع أن يحقق لهذا الشعب انتصاراً كبيراً في حرب الثماني سنوات التي يعرف مكية جيداً كم طحنت هذه الحرب من أبنائنا ودمرّت من ثرواتنا، وكيف كانت الأساس الأول لكل خرابنا القادم.

 

ولا أدري كيف يسمح لنفسه بأن يصادر، بصلافة، موقف سجين يساري يسامح جلاديه بشكّل غريب وغير معقول، لأن المسامحة لها ظروفها الخاصة حين تكون الضحية بوضعٍ مختلف خارج حدود أسرها السابقة، وليس تحت أيدي من يقومون بتعذيبه، ومن ثمّ إعدامه في أحدى المقابر الجماعية.

 

وإذ تُحسب لمكية دقّة تصوير مشاهد النزاع بين “البيوتات الشيعية” التي تأججت، وتحوّلت إلى مناخ لـ”الفتنة” بين أجنحتها السياسية والمسلحة إثر مقتل مجيد الخوئي في يوم سقوط النظام السابق، والتي أعقبتها فتنة أكثر إتساعاً، عندما تم إعدام صدام بطريقة طغى عليها الحقد الطائفي ‘في التوقيت ووسيلة التنفيذ المصوّرة في ظل الهتاف بشعارات طائفية، فأن وضعاً أساسياً تم تغييبه في الكتاب بخصوص الفتنة الأكبر في العراق، يوم رفعت دبابات النظام السابق شعار “لا شيعة بعد اليوم” وهي تقتحم مدن الجنوب لمعاقبة طائفة برمتها، وحوّلت أراضيها إلى مقابر جماعية لأبنائها دون تميّيز أو مراجعة قضائية لملفات من تم قتلهم . وأعقب ذلك ما سميّ بـ”الحملة الإيمانية” التي فتحت أبواب العراق على سعتها، لنشاط الحركة الوهابية المعروفة بسياساتها الطائفية المتطرّفة، والتي وجدت في دموية البعث العراقي حاضنة لتخصيب أفكارها السلفية، وتفريخ مخلوقات مجبولة على العدائية والعنف مهدّت لنشاط القاعدة الإرهابي، وبعدها لممارسات داعش الدمويّة التي وضعت جداراً نارياً بينها وبين كل ماهو عقلاني وأخلاقي، وبمشاركة قيادية فاعلة لعناصر أمن ومخابرات نظامصدام نفسه. طبعاً، هذا لا يمنع من الإقرار بأن النخبة السياسية التي جاء بها الاحتلال غذّت بلصوصيتها وفسادها النشاطات الإرهابية، وشكّلت معها دورة حياة تتغذّى على دماء العراقيين. وليس مفيداً بعد كل هذه التداخلات التي وضعت العراق على شفير الخراب، أن يتبنى مكية موقفاً للمفاضلة بين السيئ والأسوأ حين يجاهر بأن “صدام كان أقل طائفية”، وكأن الظواهر السياسية والمجتمعية تُقاس بميزان بقّال، يتلاعب بسعر ذات البضاعة على شُراةٍ مغفلين.

 

كاظم الواسطي
كاظم الواسطي

 

وفي جانب إثارة تفاصيل النزاع بين البيوتات الشيعية، وتحميل شخصيات النزاع بأفكارٍ عدائية، مبنية على الإتهام والتخوين لجهة أيران أو النظام السابق، ضد بعضها البعض، وتخيّل صوراً قادمة للثأر، حين يتحدث عن خطة لـ ” جيش الأمام” بالسيطرة على “المنطقة الخضراء”، ونشر عناصره “في البرلمان وبنايات مجلس الوزراء”! وتطويق منطقة الكرادة للقضاء على جماعة بيت الحكيم هناك، وحيث يرد على لسان الراوي “كم يسهل عليّ تنظيم إنقلاب”.

 

يبدو من خلال كل ذلك، وكأن مكية يحاول هو نفسه اللعب على حبال “الفتنة” والتحريض على حربٍ شيعية – شيعية، عبر كشف نوايا بعض الأطراف للتآمر وتصفية الأطراف الأخرى. إن توقيت هذا الطرح بالتزامن مع ما نشهده اليوم من نزاعات، واضطراب في علاقات قوى الطبقة السياسية الحاكمة، وما جرى من تصعيد في الإحتجاجات الأخيرة التي توجت باقتحام “المنطقة الخضراء” من قبل جماهير التيار الصدري بعد توقعات مكية بفترة ليست بالقصيرة، يجعل تفكيرنا وهواجسنا تميل إلى ضفة “نظرية المؤامرة” التي تُنسج عناصر بنائها في مكانٍ آخر. وما يشجّع على مثل هذا التفكير، هو ما يجري حالياً من تدويل للأحداث في منطقتنا، وما يتم رسمه من سيناريوهات جيو –سياسية غامضة، ومتعدّدة الأشكال والأهداف.

 

لقد بدأ مكية كتابه بعملية شنق صدام – عنوان النسخة الإنكليزية للكتاب هو “الحبل”، وبرأيي أن في العنوانين نوعاً من خباثة القصد في التحريض –حيث يتخيّل الراوي شخصية صدام كقائد، ورجل ترتعد فرائص من ينظر إليه، ليخصص الفصل الثالث لحوار مفترض بين الراوي وصدام. كان صدام في تلك الحوارات شخصية من نمط خاص في فهم الأمور، وتحليل ما يدور حوله بعقلية سياسي محنّك، يعرف كيف يفكّر، ويفلسّف أفكاره في هذا الحوار. فهو هنا ليس في صورة الطاغية المستبّد، كما تجسّده كتب مكية السابقة، بل شخصية مختلفة تماماً في التعاطف وطريقة المعاملة  ” أحببتكم وأنا أعلمّكم”.

 

ويطلب الراوي من العراقيين أن يعتبروه ” آخر ما تبقّى من شيء اسمه العراق “، لأن صدام إمتداد لتأريخ العراق القديم و ” لتعاليم الملوك السومريين والبابليين والآشوريين ومن بعدهم رسول الله وخلفاؤه الراشدون”، بمعنى آخر أن العراق قد إنتهى كوجود وتاريخ بنهاية حكم صدام. وأراد مكية أن يعزّز صورة صدام كما ظهرت في المحكمة، وهو يمثّل دور المسلم المجاهد الذي لايفارق القرآن يده، ويستعين بآيات منه في مواجهة من كانوا يقومون بمحاكمته. وهي الصورة التي ألغت صورة صدام كطاغية لا يعرف الرحمة، وصورة رجل الحفرة المهزوم – ستكشف الأيام من كان وراء إعداد هذا السيناريو الذي كان واحداً من أهم عوامل تأجيج الصراع الطائفي في العراق – حيث كرّس هذا السيناريو صورة صدام كشخصية سنيّة مقاومة للإحتلال الذي نصّب الشيعة كحكامٍ على العراق بديلاً عنه،وكرمزٍ يمثلّ السّنة، بلا منازع، في صوره “الجهادية” المعدّة جيداً داخل المحكمة. وما كان يجعل ذلك ممكناً في تأثيره على الذهن العام ،هو أن صدام نفسه قد عمل كثيراً على تغييب ذاكرة العراقيين ،وتشويش أذهانهم بالقمع والخوف .

 

وفي محاولة منه لتوضيح آرائه بخصوص ما ورد في كتاب “الفتنة”، وإضافة مالم يتحمّله تجنيسه كرواية، وهذا ما ذكرته في ضمن الموضوع، أصدر مكية كتاباً ملحقاً اسماه “هوامش على كتاب الفتنة”. وفي هذا الملحق يؤكد مكيّة على أن موضوع كتابه السابق، وهنا يسميه “رواية سياسية”، هو تخلينا عن العراق كـ”فكرة”، وعن دولة العراق التي عرفناها في القرن الماضي. ويحاول، بطريقة مشكوك في دوافعها، تبرئة الأمريكيين مما حدث في العراق بعد 2003، فهم جاؤوا محتلين “دون تخطيط مسبق”، وأن العراقيين هم المسؤولون عن تدهور الأوضاع بعد الاحتلال “وليس الأمريكيين” الذين لم يكن لهم دورٌ في رمي فكرة العراق في “سلّة المهملات”. وهنا يستوحي مكية آراءه وأفكاره من ذات الذاكرة المشّوشة، ففي الوقت الذي يبرئ الأمريكيين مما حصل، يؤكد اعتقاده بأنهم لم يطيحوا بنظام صدام من أجل بناء الديقراطية في العراق، ولكي يبرّر ذلك، لصالح الأمريكيين، فهو لا يعتقد بأن الديمقراطية “نتيجة حتمية” في مجتمع تعرّض للفجائع والظلم خلال ثلاثين سنة من حكم صدام، في وقتٍ يحصر كل ما حصل من تدهور في العراق بالفترة التي أعقبت الاحتلال!!

 

وهو بهذا يلغي كل أحكامه السابقة عن تحديد الإختلال واضطراب المجتمع ضمن فترة ما بعد نظام صدام الذي صوره مكية، بإشارات تُقرأ جيداً في السياق العام لأفكاره، مثل حاضنة لـ”فكرة العراق” ودولته. ولا أدري أيّة فكرة لوطن حقيقي، وأية دولة لمواطنة يعيش في ظلهما المجتمع ثلاثين سنة من الفجائع والظلم ؟ وإذا كان مكية يعتقد بأن الأمريكيين لم يحتلوا العراق من أجل بناء الديمقراطية، فكيف يتم تفسير قوله ” أظل واقفاً إلى يومنا هذا مع دعمي السابق لحرب 2003 ” ؟وكيف لمن يعترف بذنبٍ أرتكبه ” أنا مذنب، وسأبقى مذنباً إلى نهاية حياتي “، يصر على الوقوف بل ودعم ما كان سبباً لهذا الذنب، وهو الاحتلال الذي يعترف مكية نفسه بأنه “مورس بعشوائية وتخبّط مفرط”؟

 

يبدو أن مكية مولعٌ بكتابة ما سيعتقده لاحقاً ذنباً أو خطأً يتطلب التكفير والتصحيح . فبعد الصورة المثالية التي رسمها لصدام، ها هو يعود في كتابه الملحق ليرسم الصورة التي تعبّر عن حقيقة شخصية صدام “صدام هو من صنع هذا العالم المرعب الذي لا ثقة فيه بين مواطن وآخر”، وهو من سخّر الخيانة “كأداة حكم في العراق عن طريق محو الثقة”، ولكن مكية لا يستطيع التخلص من التناقضات، وتشّوش الآراء، فبعد وصفه السابق للأحتلال بالعشوائية والتخبّط في ممارساته، وبأنه من أوجد مجلس الحكم، وأتى بقيادات هذا المجلس، والنخب السياسية الأخرى، على ظهر دباباته، يعود إلى تأكيد، وحصر ما حصل من تدهور في العراق بأسباب داخلية “كان الفشل ذاتياً، آتياً من الداخل وليس من الخارج”، وفي ذات الوقت يتحدث عن خيانة “العراقيين الأجانب” الذي جاء بهم المحتل!. ثم يعود ليؤكد بأن الأمركيين كانوا “متوهمين” بقيادة الشيعة كنخبة سياسية تقود العراق . وبعد آرائه، وانطباعاته المتخيّلة والمتناقضة عن صدام، يعود ليؤكد بأن  “صدام ما زال وسيبقى شخصية متأصلة بنا كعرب ومسلمين”. ثم يلخّص موقفه من الأوضاع التي حصلت في العراق بعد الاحتلال بطريقة تكشف الحقيقة التي يريد التشويش عليها بكل هذه الزحمة من الآراء والأفكار والتصورات المتخيّلة بتأكيده على أن “ما حدث في الحقيقة بعد 2003 كان إجتثاث السّنة، أو تصفية حسابات مع البعثيين، وليس شيء آخر”. وتبيّن لي من خلال قراءة كتاب “الفتنة” وهوامشه الملحقة هو أن موقف مكية هذا يمثّل الدافع الحقيقي وراء ماكتب. وهو، برأيي، لا يخرج عن كونه محاولة لإثارة فتنة أخرى تحت غطاء مموّه أسقطه بذكاء خبيث على ما سمّاه رواية “الفتنة”. هي فتنةٌ أخطر بكثير من “الفتنة” المرويّة على لسان “شخصيات خيالية” في رواية، وأقرب إلى “الحبل” الذي أراده رمزاً لصدام كضحية، ولطائفة تعرّضت لـ ” إجتثاث” مبيّت. لقد وضع مكية نفسه، كما بدا لي كقارئ، في موقع من يريد أن يوقد مشاعر الثأر بين فتنة تعصّف بالشيعة وحبلٍ لا ينساه السّنة .

 

إقرأ أيضا