في مثلث الاهوار الوسطى الواقع بين المحافظات الجنوبية الثلاثة تنتشر عشرات وربما مئات القرى والتجمعات السكانية الصغيرة، لكل قرية قصة وتاريخ ومناسبة للتأسيس، بعضها معروف ومسلطة عليه الاضواء لسبب او لآخر وبعضها لا زال يكتنفه الغموض.
ومن القرى الاساسية والمهمة جدا في الاهوار الوسطى هي قرية الصيكل “Saigal” التي تبعد 15 كم عن ناحية الخير بمحافظة ميسان. تقع تلك القرية في قلب الاهوار الوسطى، القرية تضم قرابة الالف عائلة، معظمها ينتمي لقبيلة الفرطوس كما يوجد ممن يسكنون فيها من القبائل الاخرى، مثل الشغانبه وبيت عطية وغيرهم. تحاذيها مجموعة من القرى مثل قرية الطار وقرية الكبيبة، وقرية بيت عطية.
في النصف الاول للقرن العشرين كانت تلك المناطق خاضعة لسلطة الشيوخ والاقطاعيين، وحصل خلاف حول مجموعة من القرى ومنها قرية الصيكل، بين “سالم الخيون” شيخ بني اسد و”سكر نعمه فدعم” شيخ عشيرة آل عيسى، من هنا استدعيت لجنة رسمية من قبل السلطات المركزية في بغداد وحددت الحدود بين بني اسد والعيسى، حيث وضعت علامة حدودية فاصلة بين الجانبين في منطقة “الفايت” الواقعة بين قرية “الكبيبة” وبين قرية “العويدية” واعتبر هذا الحد لاحقا حدودا ادارية لمناطق الاهوار بين ذي قار وميسان. وكانت الصيكل تتبع اداريا الى قضاء الميمونة في محافظة ميسان، لكن منذ العام 1979 تم فك الارتباط بينها وبين الميمونة واتبعت الى ناحية العدل التابعة لقضاء المجر الكبير بنفس المحافظة، بعد ذلك فإن بقايا واطلال تلك القرية تبعت الى ناحية الخير التي استحدثت عام 2001.
المستشرقون والصيكل
قرية الصيكل المختبئة بين حقول القصب والبردي لفتت اليها انظار الرحالة والمستشرقين وحرصوا على زيارتها وقضاء وقت طويل في مضايفها الكثيرة، والمهيّأة لاستقبال الضيوف، زارها صديق الاهوار المشهور ولفريد ثيسيغر وكتب عنها: “الصيكل اكبر قرية اراها حتى الان مقسومة بممر مائي فسيح امتدت على كلا جانبيه مساحة طويلة ضيقة من اليابسة حملت عددا من المضايف والدكاكين في حين بنيت بيوت القرية البالغة اربعمائة او خمسمائة بنموذج المعدان على الدبن. يطل على مدخل القرية الغربي حصن بني بالطابوق بشكل سريع من قبل العيسى حين كانت القرية تحت تهديد البومحمد فقد اظهرت جدرانه شقوقا وصدوعا عميقة. وفي الجهة المقابلة للضفة الجنوبية بناية ذات سقف مسطّح معدّة كذلك للدفاع في حالة الحرب بغرفها المبنية حول فناء صغير. وعلى بعد ثلاثين ذراعا على لسان من ارض يابسة يتوغل في البحيرة يقف مضيف مهيب بإحدى عشرة شبة كلتا البنايتين تعودان الى عبد الله “عم مزيد” وممثله في الصيكل، يعيش الشيخ مزيد نفسه مع عشيرته في البر الرئيسي، وكل الموجودين من العيسى في الصيكل هم بعض افراد عائلته واتباعه وما عداهم من سكنة القرية من الفرطوس والشغانبة وبعضهم الاخر من البو محمد”.
اما كافن يونغ الرحالة الاخر الذي حرص على تكرار زياراته للأهوار فكتب عنها ايضا “توجد الیوم في قریة الصیكل مطحنتان أو ثلاث، مثل مطحنة الحاج یونس. تقع الصیكل على حافة الھور وھي من أكثر قرى وسط وغرب الأھوار كثافة سكنیة. یقطنھا ما لا یقل عن ألف عائلة یقیم بعضها على الیابسة وبعضھا الآخر في جزر عائمة. یوجد فیھا مركز للشرطة كذلك، وھو بناء بحجر قدیم ینعكس عنه ضوء الشمس عند شروقھا فیصبح ذا لون برتقالي. وماذا بعد؟ مستوصف كونكریتي صغیر یعمل به طبیب عراقي شاب یدعى فؤاد، وممرضة واحدة أو اثنتان. وجدته مزدحماً عندما زرته والمرضى یقفون بالطابور خارج الباب منشغلین بنشّ الذباب عن الجروح. لم أر من قبل طبیباً في الأھوار. كان الناس یأتون إلى فؤاد من أماكن بعیدة”.
سبب التسمية
الصيكل هي المفردة الشعبية الاستخدام للمفردة الفصيحة “الصيقل”، وبناءا على كتب اللغة فإن الصيقل مشتقة من “الصقل” والصقل يعني تمليسِ الشيء، يقال صَقَلْتُ السَّيْفَ أَصقُله، وصائغ ذلك الصَّيقل. ويقال: الفرسُ في صِقاله، أي صِوَانِهِ، وذلك إِذا أُحسنَ القيامُ عليه، كأنَّهُ يُصقَل صَقلاً ويُصنَع. ومن الباب الصُّقل من الإنسان والفرس، وهو الجنْب، والجنب أشدُّ الأعضاء ملاسةً، فلذلك سمِّي صُقلاً، كأنَّه قد صُقِل. ويقال منه فرس صَقِلٌ، أي طويل الصُّقْلين.
وقد وردت مفردة الصيقل في الشعر العربي بما تقدّم الاشارة اليه من معاني، ففي ذات الصدد يقول جرير :
تصِفُ السُّيوفَ وغيركم يَعْصَى بها يا ابنَ القُيونِ وذاك فِعْلُ الصَّيْقلِ
يقول الفضل بن قدامة العجلي، أبو النجم:
وَآضَتِ البُهمى كَنَبلِ الصَيقَلِ وَاِحتازَتِ الريحُ يَبيسَ القِلقِلِ
اما لماذا سميت بهذه التسمية فقد اختلف في سبب التسمية، بعض كبار السن يعتقد انها سمّيت كذلك نسبة لنوع من الخيول وهو الصيقل او الصقلاوية، كان العرب يأتون بها الى تلك المنطقة في بعض المواسم وذلك لان بعض اطرافها من الجهة الغربية تلامس اليابسة في موسم الجفاف. والبعض الآخر له رأي مختلف، ويعلل سبب التسمية الى شخص كان يسكن بقرب قرية الصيكل في تل “اشان” يسمى “ابو كعيبايه” وهي منطقة اثارية وكان ذلك الشخص يمتهن صقل الاسلحة واصلاحها يلقب بصكلاوي، فاخذت التسمية من هناك.
بدايات الصيكل
كان الصيكل قرية صغيرة واراضي زراعية ومكان للصيد حتى بدايات القرن العشرين، ولم يكن فيه تجمعات سكانية كبيرة، في الثلاثينات من القرن الماضي سكنه “السيد محمد والي الخرسان” ورافقه ايضا مجموعة من عشيرة العيسى ومعهم احد مشايخهم وهو عبد الله السكر ممثلا عن الشيخ مزيد الحمدان. اراد شيخ مزيد السيطرة على تلك المناطق الحيوية خوفا من سيطرة القبائل الاخرى عليها. في تلك الفترة ايضا قدم الى الصيكل خليط من القبائل الاخرى مثل الفرطوس ثم الشغانبه الذين جاءوا الى القرية بسبب خلاف مع الاقطاعيين، ففي العام 1953 قام خادم الشيخ مجيد الاقطاعي بضرب شقيق شيخ عشيرة الشغانبه في قرية العكر حمود بن مهاوي بن شجر فانتفض الشغانبه ولقّنوا ذلك الخادم درسا، واثر خلافهم مع مجيد ترك العديد من الشغانبه العكر وذهبوا الى الصيكل. وهكذا اتسعت شيئا فشيئا تلك القرية، لتكون من اكبر القرى في الاهوار الوسطى.
ابرز معالم المنطقة
الصيكل وكما هي عادة القرى الاخرى تتميز بانتشار المضايف فيها، المضايف هي الركن الاساسي في هويّة الاهوار وسكانها، وفيها ايضا مبنيان كبيران من الطابوق على هيئة حصن، المثير جدا عن تلك المباني ليس فقط انها حصن كبير في قلب الاهوار، بل مضافا الى ذلك انها بنيت بالكامل من الاجر الذي يستخرج من اليشن “التلال” الاثارية القريبة وخصوصا شان “المشيهد” الواقع غرب الصيكل، كان ذلك في الاربعينات من القرن الماضي حينما حصل خلاف بين عشيرة البو محمد وعشيرة آل عيسى التي لها تواجد رمزي في الصيكل باعتبار انها تسكن اساسا في قرية الشطانية القريبة من ناحية السلام، ولهم شيخ معروف هناك اسمه “مزيد الحمدان”. لقد طلب الشيخ عبد الله السكر “عم مزيد بن حمدان شيخ عشيرة آل عيسى” طلب من اتباعه بناء حصن منيع من اجل ان يحتموا به فيما لو استهدفتهم عشيرة اخرى، وهكذا قاموا بنقل الطابوق القديم من التلال التاريخية من اجل ان يبنوا به صروحهم الكبيرة. وقد تحوّل أحد تلك القلاع فيما بعد الى مبنى لأول مدرسة في الصيكل حينما تم تأسيسها عام 1958. اما المركز الطبي في الصيكل فقد تأسس عام 1970، وفيها ايضا مركز للشرطة مبني من البردي المضغوط الذي قص من الاهوار لكنه صنع في معمل البردي المضغوط في البصرة. كما بني فيها لاحقا محطة كهرباء تعمل بالمياه التي تغطي القرية من كل جانب، عملت المحطة لفترة ثم اهملت من قبل الدولة.
مضافا الى ذلك كانت الصيكل تتميز بأن فيها مطحنتان كبيرتان جدا من صناعة شركة روستن هور نسبي “Ruston & Hornsby” التي تأسست في العام 1840، وانضمت الشركة بعد ذلك الى شركة سيمنس، تلك الشركة كانت مشهورة بصناعة المعدات الثقيلة.
الطور المحمداوي والصيكل
في سياق الحديث عن تلك القرية لابد من الاشارة ان الطور المحمداوي ارتبط اساسا في تلك القرية، اذ يتداول سكان الاهوار قصة شهيرة حدثت في قرية “الصيكل” ، ففي تلك القرية مطرب حسن الصوت يدعى “محمد ناهي ال نصر”، اقحم في خلاف عشائري فقضت عليه الاعراف القبلية بالابتعاد عن الصيكل، اضطر للعيش برفقة عشائر البو محمد في مناطق اخرى من الاهوار، كان شغوفا بتلك المنطقة وبمجالسة اهلها، وكان يغني بذلك الطور ابياته الشهيرة:
“بالحرثه ضاع الجدم ياهيه يابردي
بصيف المكابر علي رديت يابردي
ابرد ولا اثمرت بالوكت يابردي
ابجرفك يصيكل هلي واحباب الي يحنّون
وشمّات بجفوفهم من مد معي يحنّون
للنار ماظن هلي هامتهم يحنون
والحال مدري علت بغيابي يابردي”
اضافة لأبيات اخرى من اشعاره كان يغنيها بطريقة خاصة واحساس صادق مرهف الى ابعد الحدود، فنسب اليه الطور ولكنه اخذ الاسم من العشيرة التي قضى عمره يعيش بين ظهرانيها.