أنين الحجارة الآشورية

ثمة خيط سري يمتد من نيسان عام 2003 الى آذار عام 2015

ثمة خيط سري يمتد من نيسان عام 2003 الى آذار عام 2015. آنذاك ساعدت جنازير الدبابة الأمريكية الرابضة قرب المتحف العراقي بصمتها وتواطئها، على تدمير وتجريف آثار بابل وسومر وأكد التي يكتظ بها المتحف، واليوم تكتمل حفلة التدمير عبر جرافات داعش الظلامية التي تلتهم آثار آشور والنمرود.

الحقد ذاته. والهدف ذاته. تدمير ذاكرة وطن ومحو لهوية شعب وأمة.

 

ليست مصادفة ان تتزامن تصريحات جنرال أمريكي عن لا جدوى تدريب القوات العسكرية العراقية لأن العراق بلا هوية مع تصريحات سياسي إيراني عن كون العراق عاصمة الدولة الفارسية. هنا أيضا، الهدف واحد: تشتيت البلد الأكثر عمقا في التاريخ والأكثر تراكما حضاريا منذ ان ولد الإنسان.

 

ولم يكن غريبا أن تجّيش واشنطن ماكنة الإعلام الغربي إحتجاجا على تدمير تمثالي بوذا العملاقين في أفغانستان. هناك أيضا عمق حضاري. صحيح انه لا يطاول العمق الحضاري للعراق، لكنه عمق حضاري على أية حال. فمدينة باميان التي احتضنت التمثالين تقع على طريق الحرير التجاري، ولذا فهي زاخرة بالأديرة المنحوتة في الجبال لسكن الرهبان الناسكين، وكان تدمير التمثالين اللذين نحتا في القرن السادس الميلادي طعنة للبوذية التي يدين بها الملايين من شعوب شرق آسيا. لم يكن الاحتجاج الأمريكي مبنيا على هاجس حضاري أو أخلاقيات ثقافية، بل كان مقدمة لشيطنة صنيعته حركة طالبان تمهيدا للإجهاز عليها. هكذا فعلت سيدة البيت الأبيض آنذاك لورا بوش حين حضرت المأتم البوذي على التمثالين مدججة بعشرات القنوات الفضائية ومئات الصحف. لكن الأمر مختلف هنا، حيث يتفق الشيخ أوباما مع الخليفة البغدادي على ان حجارة تماثيل آشور والنمرود، ومن قبلهما حجارة تماثيل بابل وسومر وأكد، لها قوة السحر في توحد هذا الشعب وهذه الأمة، ولذا كان لابد من القضاء على هذا السحر عبر تحطيم وتجريف تلك الحجارة.

إنه بلدوزر الحقد يجرف تاريخ العراق وذاكرة العراق وهوية العراق كما يجرف حاضره ويستعد لتجريف مستقبله.

 

لو ينطق الحجر، لصرخ بوجه ساسة باريس الباهتين وسط ألق أسلافهم شارل ديغول وفرانسوا ميتران وجاك شيراك، دافعوا عن الملك لويس الرابع عشر الذي قال في القرن السابع عشر أنا الدولة والدولة أنا، تلك كانت إستعارة من الملك الآشوري أدد نراري الذي سبقه بستة وعشرين عقدا بالقول عام 911 قبل الميلاد أنا الدولة. هل ثمة ترابط بين الملوك أكثر من الترابط بين الشعوب على مستوى التاريخ؟

 

لم يعد ثمة متسع للدمار. دمار الحجر أو دمار البشر. والفترة التي حددها إستراتيجيو البيت الأبيض للقضاء على داعش، والتي تمتد لعشر سنوات، لم تكن مطلوبة للقضاء على تنظيم مهلهل قوامه جهلة وظلاميون من بقاع مختلفة، بل هي فترة مطلوبة للنبش في الذاكرة العراقية من أجل طمرها وتدميرها، خشية أن تكون شاهدا جديدا على حضارة وذاكرة وهوية العراق، ولم يعد ثمة مناص من ان يحافظ العراقيون على إرثهم عبر الإسراع في تطهير المدن العراقية من اللحى القذرة القادمة من أرذل كهوف التاريخ، للحفاظ على ما تبقى من العراق تراثا وهوية ووقف أنين الحجارة الآشورية التي تفوق بأحاسيسها إنسانية أوباما وأولاند وكاميرون ونصف قادة دول العالم والمنطقة، ناهيك عن إنسانية السياسيين العراقيين الذين لا يسمعون أنينها ولا يفقهون لغتها المتحضرة.

 

إقرأ أيضا