أمة عربية واحدة: قصة من الخيال العلمي

مثلت القومية العربية منذ بداية ظهورها مشروعا عربيا كفاحيا يهدف إلى وحدة الأمة العربية، وقد تنامى هذا الفكر من خلال تصارعه مع المشروع الصهيوني واحتلال فلسطين عام 1948م، ما جعل المشروع العربي القومي مرتبطاً بحالة الكفاح والصراع مع الكيان الإسرائيلي القائم، وقد وحد هذا المشاريع القومية تحت هدف واحد هو وحدة العرب.

لعل قيام أول وحدة عربية في التاريخ الحديث، وهي الوحدة السورية المصرية عام 1958م، التي أسفرت عن قيام \”الجمهورية العربية المتحدة\” مجسدة حلماً سكن قلوب الكثيرين على امتداد الوطن العربي، يرون أن ما يجمع الأمة العربية هو أكثر مما يفرقها، وإنه من العار أن تبقى الحدود المصطنعة قائمة بين دولها.

وفي سياقها خرجت العديد من التجارب الوحدوية العربية، كان أكثرها يخرج إلى العلن فجأة ثم سرعان ما ينزوي دون أن يسمع المواطنون العرب عنه شيئا، فهم لم يعرفوا أسباب قيام هذا المشروع الوحدوي أو ذاك كما لم يفهموا أسباب فشله، كما شهدت سنوات ما بعد تفكك الوحدة السورية المصرية إعلان مشروعات وحدوية فكان الاتفاق السوري المصري العراقي على قيام وحدة ثلاثية بين الأقطار الثلاثة، وكذلك اتفاقية التنسيق السياسي بين العراق والجمهورية العربية المتحدة عام 1964م، واتفاق التنسيق بين الجمهورية العربية المتحدة واليمن وبينها والأردن، إضافة إلى إعلان الاتحاد بين الإمارات العربية الذي بدأ عام 1968م، بالاتحاد بين إمارتي دبي وأبو ظبي فضلا عن محاولات الوحدة بين كل من مصر وليبيا وسورية والسودان وكذلك الأردن وفلسطين، ومحاولات الإتحاد المغاربي المتكررة، وأخيراً إعلان الجمهورية اليمنية الموحدة بين شطري اليمن عام 1990م.

ولكن سرعان ما تهاوت هذه المشاريع نتيجة تآمر الدول الاستعمارية والنزاع نحو القطرية وتحقيق مصالح القطر، وتعلق عملية التطور الوحدوي في العالم العربي بإرادة الحكام وليس بقرار المؤسسات، وكثرة الخلافات بين الفصائل القومية، واستمرت هذه الأوضاع بالتدهور حتى ظهرت المشاكل الاثنية والانفصالية ومشاكل الهوية والحروب الأهلية لتشهد البلاد العربية مزيداً من التمزق والتدهور والتأخر، وتطفو على السطح العديد من الإشكاليات والنزاعات والصراعات بين الأقطار العربية التي قسمت لمحاور وتحالفات مختلفة، أبرزت تدهور المشروع الوحدوي العربي من جانب وأظهرت أزمة الدولة الوطنية من الجانب الآخر، إذ طرحت السياسات الصهيوأمريكية العدوانية المستهدفة شعوب الأمة العربية في هويتها وشخصيتها الوطنية وثقافتها القومية ووحدة تراب وطنها، بالعمل على تفتيتها وشرمذتها إلى دويلات طائفية واثنية كما يحصل الآن في معظم الدول العربية، بهدف تعميق عملية النهب للثروات وعدم تحقيق نهضة وتطور للشعوب العربية، هذا ما يجب أن يكون عليه حال الدول العربية بشعبها من خلال مشروع تقسيم وتجزئة الوطن العربي الذي قادته الدول الاستعمارية والتي مثلت بداية لمشروع ينهي الوجود الوحدوي للأمة العربية.

تعيش الشعوب العربية حالة من الانقسام نتيجة خلق حالة من اللا استقرار السياسي والمادي لأن سياسة الصهيوأمريكية لا يمكنها العيش في منطقة قوية بل تريد تمزيقها وتفتيتها من خلال الركوب على ثورات الشعوب العربية حتى كادت صورة العالم العربي تكتسي بالسواد بين تمزيق وتقسيم، وفتنة طائفية وصراعات دينية، بين شغب وثورة ضد الفساد والظلم، حتى أصبح العالم العربي هو الساحة الوحيدة لتطبيق الشرعية الدولية الجديدة بعد أن فقد أهمية لاعبيه حتى في قضاياه القومية، فاستبيح الوطن العربي، وتم تفكيك المواقف العربية بحيث لم يعد هناك قضية قومية واحدة، على عكس ما كان العالم العربي ينشد حتى ثمانينيات القرن الماضي إنه جسد واحد تنتفض كل أعضائه إذا مُس عضو فيه، وانشغل كل وطن بعلاقاته ومصالحه الفردية، فتراجعت الروح الجماعية، وازدهرت العلاقات الإسرائيلية مع بعض الدول العربية، وكان من نتائج مواقف بعض الدول العربية المتواضعة في فلسطين والعراق والصومال والسودان وغيرها من الدول الشقيقة إزاء إسرائيل أن توحشت ولم تعد تطيق مجرد النقد.

اتبعت السياسة الغربية منذ قديم الأزل سياسة تقوم على الهيمنة والسيطرة من خلال التشتت والتقسيم ليشعر كل طرف بحاجة إلى دعم الغرب له، لذا عملت الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها الدول الاستعمارية على إحداث فتن طائفية في مختلف البلدان العربية، سعياً منها لتنفيذ الطوق النظيف الذي وضعته في نهاية التسعينيات لضمان أمن الكيان الصهيوني عن طريق القضاء على الجيوش العربية في دول الجوار الإسرائيلي على الأخص، سورية والعراق ومصر بالتزامن مع تحقيق خارطة تقسيم منطقة الشرق الأوسط بعد إشغال المنطقة بالفوضى الخلاقة بما يسمى بالشرق الأوسط الكبير.

لا شك أن الغزو العراقي للكويت في مطلع التسعينيات كان المسمار الأول في نعش وحدة الأمة العربية، والشرارة التي أشعلت نار الفتنة بين الأخوة في الإسلام والعروبة، ومعه انهار ما تبقى من نظرية القومية العربية، وانقسم الصف العربي بين مؤيد ومعارض تجاه تلك الأزمة، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن ما زال يئن تحت وطأة هذا الانشقاق لما له من دور حاسم في إذكاء نار الفتنة والخلافات بين الأشقاء العرب.

مثلت الحالة العراقية مقدمة ثمار المشروع الصهيوني من خلال الاحتلال الانجلو أمريكي للعراق عام 2003م، وحمل معه الإعلان الرسمي لتقسيمه، تقسيما طائفيا ومذهبيا وعرقيا، حيث دفع العراق ثمنا باهظا لتداعيات وآثار هذا المشروع، فالخسائر البشرية وصلت حدا غير معقول وتحولت العديد من المدن العراقية إلى أنقاض، إضافة إلى المزيد من التدمير للبنى التحتية والمزيد من الآثار النفسية السيئة على المواطن العراقي، فإذا رصدنا الأوضاع هناك سنجد أنفسنا أمام أكثر من مشهد، العراق مقسم إلى ثلاثة كيانات أو أقاليم رغم وجود حكومة مركزية، وما زال عرضة لاندلاع جولات جديدة من الحروب والاقتتال الداخلي بين الشيعة والسنة وبين العرب والأكراد وذلك ضمن مخطط تقسيم الأقطار العربية الذي وضعته الصهيونية والغرب الاستعماري.

ونتيجة الصمت العربي وعجزه عن فعل أي شيء عملت الدول الاستعمارية على تفتيت السودان إلى دويلات وتحريك النزعة الانفصالية \”انفصال الجنوب\” الذي وجه ضربة قاسية لمستقبل الاقتصاد العربي كونه يمثل أكبر دولة عربية وأغناها للخيرات التي تؤهله بأن يكون سلة الغذاء العربي، وهذا الانقسام له تداعيات عربية بالغة الخطورة تتجاوز حدوده لتصل دولا عربية مجاورة كمصر وليبيا واريتريا.. ليواصل سرطان التقسيم استشرائه في طيات تلك الدول.

بالطبع لم تكن فلسطين غائبة عن مداولات هذا المشروع الاستعماري فقد طرح الكيان الصهيوني فلسطين لتكون ضمن حلقات مشروع التجزئة، ويعتبر الانقسام الفلسطيني، الذي تحول من جهة إلى انقسام مادي ملموس بفعل دولة الاحتلال وانقسام معنوي محسوس بفعل الفلسطينيين أنفسهم من جهة أخرى، مسؤولا عن تضييع قضية فلسطين التي حارب العرب من أجلها لسنوات عديدة، فالقضية الفلسطينية في ظل تزايد التحديات الإقليمية وتراكم القضايا العربية تواجه مستقبلاً أكثر ضبابية غير واضح المعالم، وكان هذا التقسيم الخطوة العملية الأولى في طريق احتلال فلسطين في إطار خطة صهيونية منظمة ومبرمجة محددة الأهداف والوسائل وتعتمد على سياسة قضم الأراضي الفلسطينية والسيطرة عليها.

من خلال دراسة للواقع العربي المشتت والمجزأ نلاحظ انه لا يكاد كيان أن يخلو من نزعة الانفصال الداخلي، ويعزى ذلك إلى أصابع خارجية خفية في مقدمتها الكيان الصهيوني الذي يسعى للتلاعب والتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد العربية، وإذا ما انتقلنا إلى الحديث عن أعراض مرضية يعاني منها الجسد العربي نجدها في أحداث الفتنة الطائفية والصراعات الدينية التي اجتاحت عدد من الدول العربية في السنوات الأخيرة، فإلى جانب العراق، نجد الفتنة الطائفية بأبشع صورها في لبنان ومصر وسورية واليمن وتونس و…، والتي باتت أقوى العناصر المهددة لاستقرارها الاجتماعي والسياسي، فمصر ترزح منذ سنوات تحت وطأة الانقسامات الطائفية والصراعات الدينية، ونراها اليوم بعد أن تحولت الاحتجاجات للمطالبة بالحقوق والحريات إلى حرب طائفية وجاءت حادثة مقتل عدد من الشيعة لتعيد إلى الأذهان فكرة المفكر حسين هيكل بأن قضية الصراع العربي الإسرائيلي بدأت تنزوي ليبرز مكانها الصراع السني الشيعي، فضلا عن الصراعات الدينية بين المسلمين والأقباط التي بلغت ذروتها مع تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية، فالأوضاع داخل مصر مرشحة للانفجار بقوة لتدخل في دائرة حرب أهلية لا تختلف عن السيناريو الذي حدث في لبنان والذي اتخذ العنف الطائفي مسار التصادم بين أبناء الوطن الواحد، فشهد صراعا عنيفا بين المسلمين والمسيحيين من ناحية وبين السنة والشيعة من ناحية أخرى، بالإضافة إلى اليمن وتونس اللذين شهدا تصعيدا سياسيا وطائفيا وعرقيا هدفه الأساسي إضعافهما وتجزئتهما وتعزيز مشاكل الفقر والتخلف بين أبنائهما، والمغرب العربي ليس بعيدا عن مشروع التقسيم والتجزئة التي يقوم بها الكيان الصهيوني، متمثلا بالصهيونية التي تؤجج وتدعم حركة انفصال الصحراء الغربية عن المغرب انطلاقا من أن ما حدث في السودان مثال يحتذى به ويجب تكرر تجربة انفصال جنوب السودان على الصحراء الغربية.

وما يجري في سورية الآن من حرب عدوانية وتدمير بنيتها التحتية والاقتصادية والخدمية، بنية تفكيك وتقسيم وإضعاف سورية الدولة والوطن وإخراجها من معادلة الصراع العربي الصهيوني، فضلا عن محاولة صهر وحدة النسيج الاجتماعي في سورية ومصر، لأنه يصب في مجرى تفتيت الأقطار العربية إلى دويلات وقوى عشائرية داخل الوطن الواحد الذي تخطط له إسرائيل وحلفاؤها في المنطقة، وبالتالي فإن تصعيد الصراع بين سورية ومصر مصلحة أمريكية إسرائيلية تريد إلغاء دورهما، لأن الأمريكيين والإسرائيليين يدركون وزنهما وثقلهما في المنطقة وإن سقوطهما بمثابة انهيار كامل للعالم العربي من أجل تحقيق مشروع الحليفين ضد الوجود العربي والقضاء على فكرة القومية العربية، والمستفيد الأول والأخير من هذه الصراعات الدائرة هي الدول الاستعمارية وعلى رأسها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية لأن الصراع المفترض أن يكون صراعا عربيا صهيونيا، تحول إلى صراعات داخلية في الأقطار العربية.

إذن إن أمتنا العربية بكافة أقطارها واجهت مرحلة جديدة هي تنفيذ سايكس بيكو الثانية والتي هدفت إلى تقسيم الأقطار العربية على أساس عرقية وطائفية من جهة وإقامة تحالفات إقليمية متعددة، وبهذا يكون النظام الإقليمي العربي أقل قدرة على العمل المشترك لحماية مصالح أعضائه، بسبب حالة الضعف والوهن والتشتت التي أحلت به ورضوخه تحت هيمنة الدول الاستعمارية، وبات أكثر عرضة للضغوط الخارجية، لهذا هدفت قوى الاحتلال إلى إعادة صياغة النظام الإقليمي العربي على نحو يتوافق والأوضاع الجديدة التي فرضتها المعادلات الجيوإستراتيجية في المنطقة.

وأخيرا يمكنني القول بأن الواقع العربي يتطلب خطوات استباقية للقيام بحركة إصلاحية واسعة تؤدي إلى تعزيز الموقف العربي والمحافظة على الروابط الخاصة وفي مقدمتها جامعة الدول العربية في ظل المتغيرات الدولية الراهنة وتراجع الفكر والدور القومي أمام تأكيد مفهوم الدولة الوطنية من خلال تقريب وجهات النظر بين منطق الدولة والأمة، كما يتطلب الأمر ضرورة المصالحة بين الدول العربية وذلك بإعادة صياغة العلاقات العربية-العربية على قواعد ثابتة وواضحة مستقرة تسمح بإعادة تشكيل أسيجة واقية للنظام العربي تسهم في إيقاف الانهيار والتشكيك فيه.

* باحث وأكاديمي سوري

إقرأ أيضا