التوظيف \”السياسوي\” للدراما التلفزيونية: شلش مثالا! (2)

(بين الإسفاف والكوميديا الرفيعة خط أرق من الشعرة.. موليير/ ولد في 1622 م)

إن من حق أي كاتب درامي أن ينقد وينتقد، بل وحتى يسخر من الزعيم أو القائد السياسي فلان أو علان وكلهم يستحقون ذلك بصراحة، على أنْ يؤدي ذلك النقد والسخرية بشكل مباشر وصريح بعيد عن الإسفاف والتلميحات غير اللائقة، والتي قد تدخل ضمن مشمولات النيل من كرامة الشخص المنقود وذاته الإنسانية التي يحظرها القانون في أغلب دول العالم المتحضر.

 لنأخذ مثلا شخصية \”العتاك\” وهو الكادح الذي يدور على البيوت في العراق، ويشتري من أهلها كل ما هو عتيق وعاطل من أغراض البيت ليصلحه ويعيد بيعه. ومن الطريف أن هذه المهنة انتقلت كما يعتقد بعض المتخصصين إلى بعض اللغات اللاتينية بحروفها العربية وما تزال تستعمل في محلات \”بيع العتيق\” وبالفرنسية (أنتيك antique)، وكان هذا المسلسل كما بدا للكثيرين صاباً في جهد معروف لدى البعض ممن يوصفون عادة بالبعثيين أو الطائفيين وأنصار النظام السابق، وهدفه المباشر الحط من قدر وكرامة الشخص المسؤول عن السلطة التنفيذية في عراق اليوم نوري المالكي، والذي دأب هؤلاء على التشهير به بوصفه كما يزعمون \”بائع المحابس\” تارة، وأمي جاهل من قرية تدعى \”طويريج\” في جنوب العراق تارة أخرى، وكأن العمل اليدوي أصبح عارا أو أن الانتساب إلى قرية في الجنوب فضيحة. يؤكد ذلك أن شخصية بطل المسلسل أي العتاك رسمت في الرسوم المتحركة بشكل شبه استنساخي لوجه ورأس وهيئة المالكي، ونسجل عرضا أن الرسام الشاب الذي قام بتلك المهمة يحوز موهبة حقيقية في الرسم الكاريكتيري، ولكن هذه الموهبة وظفت بطريقة تتماشى وأهداف الخطوط الإخراجية العامة التي وضعها مهند أبو خمرة، ومن الطبيعي والمنصف ألا يتحمل كاتب النص المسؤولية بشكل مباشر عن ذلك التنفيذ، غير أنه كان يملك على الأقل حق التحفظ والاعتراض على ما يعتقد بأنه حرف لمضمون عمله نحو أهداف أخرى لم تدر بخاطره إن كانت لم تدر بخاطره فعلا.

والحقيقة فإن من يسمع كلام الكاتب الشاب محمد خماس وشرحه لموقفه ولتناوله للشخصيات وكيفية تطورها على الورق وخصوصا في مسلسل العتاك يقترب من تصديق أن قصده ككاتب كان بعيدا كل البعد عن نوايا وأهداف \”الخاصة\” المخرج أبو خمرة والجهة المنتجة، اللذين أصرا مثلا على تكريس ملامح رئيس الوزراء نوري المالكي في رسم شخصية العتاك، وإنما – كما أسلفنا – كان يمكن للكاتب أن يسجل تحفظه على ذلك إن كان غير مقتنع به. أما بخصوص شلش فيبدو أن الكاتب خماس يتبنى العمل بقضه وقضيضه كما يقال، فحين سأله المذيع عن رأيه بطلب الكاتب سرمد الطائي من منتجي العمل تقديم اعتذار للكاتب شلشل العراقي رفض خماس وبشكل قاطع تقديم أي اعتذار، مكررا زعمه بأنهم اتصلوا بشلش شخصيا وأنه وافق على العمل وكان كيطان قد كذب هذا الزعم نقلا عن شلش الحقيقي ذاته. 

إن هذه الطريقة في التنفيذ تعطينا ملمحا واضحا عن الكيفية التي تُنتج وتُخرج فيها النصوص الدرامية من مؤسسات إنتاجية وإعلامية مسيَّسة أو مدارة من قبل أناس لهم غرض سياسي معين، ومن قبل ممارسين تنقصهم الثقافة الفنية العامة والدربة التقنية  الخاصة اللازمة، والأمر هنا ليس حكرا على هذه الفضائية التي عرضت العمل مع أنها تحوز قصب السبق في هذا المضمار، بل إننا لنقع على أعمال مشابهة أو أكثر سوءا في فضائيات أخرى بمقدار تعلق الأمر بالدراما التلفزيونية العراقية.

إن تقليد الهجاء الشخصي أمر شائع في السياسة والأدب، وخصوصا في العراق، وغالبا ما ينسى الهاجي نفسه وهو في غمرة التنفيس عن غضبه ومكنوناته الداخلية وينسى أن حالة من يدافع عنهم، أو في الأقل من يسكت عنهم من أصدقائه، لا تقل سوءا عمن ينتقدهم ويهجوهم في وسيلته الإعلامية الخاصة التي يمتلكها، وأن الآخرين يمكنهم، هم أيضا، أن يفعلوا الأمر ذاته، خصوصا وأن حال القادة والزعماء خلال عهد النظام السابق لم يكن  \”كمرة وربيع\” على حد تعبيرنا الجنوبي الجميل. فالعراقيون يتذكرون الكادح الذي كان بائعا للثلج ثم أصبح جنرالا يقود عدة فيالق وكيف سلم شمال العراق دون أن يطلق رصاصة واحدة ضد الغزاة، وهناك نائب الضابط البسيط والذي لم يحز على أية شهادة دراسية بعد الابتدائية والذي أصبح وزيرا لوزارتين، إضافة إلى هيئة التصنيع العسكري الضخمة والذي سحق آلاف المنتفضين من أبناء شعبه ضد صهره الرئيس بجنازير الدبابات سنة 1991، غير أن اعتماد هذه الطريقة في توظيف الوسائل والإمكانات الفنية والأدبية ودخول الكاتب والمخرج والممثل في هذا النمط الدرامي ليس هو ما يصنع إنجازات درامية وفنية حقيقية وذات قيمة، بل هو – إذا توخينا الإنصاف والموضوعية – يُضيِّع المواهب الحقيقية في الكتابة والرسم والتمثيل في غيهب التوظيف السياسوي.  

إن الميزة الإيجابية الحقيقية للحوار الذي كان كاتب هذه السطور شاهدا عليه، وهي ميزة أنضجتها تدخلات الصديق كيطان والعقلية البناءة التي تعامل بها الكاتب الشاب محمد خماس أحيانا من النقد الذي قدم، وإدارة الحوار السلسة والمريحة من قبل الناقد مجيد السامرائي، كانت في أنه أخرج هذا الموضوع الحساس والمؤثر من دائرة حوارات \”التفاخر المطلق في مواجهة الشطب والإلغاء المطلق\” للأعمال الفنية ذات المنحى السياسي ووضعه في إطار الحوار النقدي المثمر والعقلاني أو بعبارة الصديق كيطان على صفحته على الفيس بوك (أخراج الموضوع من فضاء النميمة، والتقولات والتفوهات الطائفية الساذجة إلى فضاء نقدي جدالي).

وأخيرا فإن الإساءة الحقيقية والتشويه الأبعد مدى الذي تقوم به جهات تنتج وتخرج أعمالا درامية تلفزيونية، متكئة على إمكانياتها المالية، لا يكمنان في إساءات وتشنيعات صغيرة لشخصيات معينة، بل -وهذا هو الأكثر إيلاما- يكمن في استغلالها وحرفها لمواهب حقيقية في الكتابة الدرامية وفي الرسم الكاريكتير، وحتى في الأداء الغنائي والتمثيلي الصوتي الرائع الذي وجدناه في بعض هذه المسلسلات نحو أهداف آنية وصغيرة وهتافية، وبالتالي حرمان المشاهد العراقي من التمتع بإنتاجات درامية رفيعة بعيدا عن الصراعات السياسية والحزبية والطائفية.. فلنتخيل فقط، كيف كانت ستكون مسلسلات كالعتاك والريس وشلش في حي التنك لو أنها كانت بريئة من هذا البعد السياسوي المريب والمجوِّف للأعمال الدرامية فحافظت على نكهتها الشعبية العراقية الطازجة وحرارتها الإنسانية العالية.. إنها ضريبة الإعلام الرقمي الحديث إذا اقترن بالمال \”السياسيوي\”! 

* كاتب عراقي

إقرأ أيضا