المقموع والمكبوت: محاولة في التذكر

1
لم أعرف الهدوء، قلت لنفسي بهذا الموت الذي يتسلل إلى البلاد، بهذا الموت الذي لا يشبه الموت، لم يعد من شيء حي، لقد ماتت الأشياء، ولا أعرف السر بعد، فضاء هذه البلاد مليء بالجثث التي تتجول في الشوارع وتلك المشنوقة والمحروقة، بشر، أبنية، أرصفة، شوارع، كلاب، قطط وأشجار، لم أعد أملك شيئاً في روحي سوى الصراخ، لماذا يزداد غموضاً كل ما حولي؟ لكنني في الوقت عينه لم أكن أعلم بأني أمام حالة من اليأس، وبهذا لم أستطع الوصول إلى يقين، لقد دّب الهلاك في روحي، هل أقول أنه القمع؟ إذا كان القمع هو صيغة العلاقة بين السلطة والمعرفة، فإن تاريخ هذه العلاقة كما يرى ميشيل فوكو في بحثه الموسوم بـ (إرادة المعرفة) هو: (تتابع لقمع متنام) وبهذا يولج نفسه ،أي القمع، في كل مكان حتى ينتشر ويمتد بصورة غريبة وهنا لا ينبغي علينا الاندهاش خصوصاً وأن القمع بصفته المعروفة سوف يجعلنا نكبت بعض الأشياء ونحجب أخرى إضافة إلى القيام بممارسة عملية التخفي للعلاقة القائمة بين السلطة والمعرفة للوصول بهما إلى نقطة الأمان التي تم الاستيلاء عليها قمعياً، من هنا أيضاً يمكننا الإجابة عن السؤال القديم الذي سبق أن أثرناه بمناسبات عديدة: هل تمثل السلطة لغة الموت في مستوى الواقع والممارسة، في مستوى التاريخ القديم والمعاصر؟ الجواب نعم.
حينما كنت في بداية مرحلة دراستي الأعدادية كان نهمي وهمي المبكر إلى الكلمة يسحبني من بيتنا كل يوم بعد إنهاء واجباتي المدرسية لأنتحي زاوية من زوايا المكتبة الوطنية ببغداد، أنكببت على المواظبة في الذهاب يومياً للقراءة والبحث عن المعرفة وما كاد مسؤول المكتبة يعلن عن موعد الإقفال حتى أكون حينها قد أنتبهت على نفسي نتيجة الاستغراق الطويل الذي تأخذني به القراءة . كنت في تلك المرحلة أشعر إني مخلوق ضائع وقد يمكنني القول: قلق ومتوتر، كنت أتألم وحدي وأحلم وحدي ولكنني في نفس الوقت لم أكن أدرك تماماً طبيعة ما يجري من تقلبات حياتية دراماتيكية تتعلق بالظروف السياسية والثقافية المعقدة التي كانت تطوقنا بسرياليتها آنذاك والتي جعلتني بدورها أواجه صعوبة الاختيار وحيداً بلا أي تردد، أختيار نمط الحياة التي أريد على الرغم من كل المتاعب والمضايقات لأنني كنت أشعر يومها برغبة عارمة في أن أمتلك القدرة على التعبير عن رأييوتطلعاتي الحياتية والإعلان عن ما أحس به تجاه حالة الرفض لطبيعة الواقع المربك الغامض الذي كنا نعيشه في تلك الفترة وكيلا أقع في هوة الخطأ ويجرفني اليأس.كنت كثير الحذر والتوجس من كل شيء مثلما كنت تواقاً لمعرفة كل شيء ودليلي على ذلك هو ما كنت أراه من أضطرابات سياسية خانقة، اعتقالات عشوائية، تقلبات اجتماعية وانحراف الكثير نحو ظواهر غريبة تقتحم حياتنا بمنتهى الصلفلم تفعل سوى إعادة إنتاج كاريزما الخوف في مخيلة الفرد الذي لم يجد، بعد وقوعه في شراك الحيرة، أي وسيلة للخلاص سوى الإصغاء إلى نداء الروح أو الإنتباه جيداً لصحوة الضمير ووخزاته.
في تلك الفترة كانت القراءة تلقي أمامي كل يوم حزمة من النور تضئ لي عتمة الواقع وتعقيداته مما جعلتني أن أعقد معها علاقة حميمية جداً حتى الساعة ثم تحولت هذه العلاقة إلى أسلوبٍ أو طقسٍ سري أمارسه مع نفسي لغرض الوصول إلى حالة من التوافق المعرفي والإنسجام الروحي مع الذات وعاماً بعد عام صرت أحس نحوها بعوارض العشق الصوفي وكأنني فتىً مراهقاً ينتظر عند ناصية الشارع، بصبر وأناة، ليحظى ولو بنظرة عابرة أو لمحة صغيرة من عين العشيقة.
 
2
 
دامت بيننا الألفة والرفقة فقد كنت أتهيبها، وأعني القراءة، ولا أغامر في مقاطعتها رغم كل المحن والازمات التي مررت بها وأنا قد تجاوزت الخامسة والخمسون من العمر . كان العراق في ذلك الوقت على غير موعد مع حقبة جديدة أقتحمت علينا كل تفاصيل الحياة حتى أدق الجزيئات، حقبة رمزها الدموي الاول (صدام حسين) بمركبة البعث الطويلة التي وصلت إلينا بعجلاتها الدموية الساحقة لكل شيء والمحملة بالشعارات العقيمة حيث قامت بعملية أفساد حياتنا كلياً منذ بداية شهر شباط الأسودوحتى اللحظة، كانت هذه الحقبة التي أمتدت طويلاً تتميز بهستيريا القتل وزراعة الرعب والشك والاغتياب والغرائبية بكل اشكالها والوانها ومشاربها المتفشية في خلايا المجتمع العراقي حيث أمسى الناس يتكلمون بلغة ذات رنين مخيف، لغة خاصة تستفز البشر وتخاطب شيئاً ما كان يتململ غامضاً في داخلي ويخضّ دمي إلى جانب إذكاء مهنة الصمت وتمجيد العزلة وتأصيلها مخافة الوشاية والوقوع في أسر المجهول، فقد كان تبعيث البشر وتجيشهم للتأهل للخراب الروحي والعراك العقائدي من أجل شعاراتهم الأيديولوجية البدائية وذهنياتهم القبلية المغلقة وصولاً لطموحاتهم السلطوية وأطماعهم الغريزية اللتان قادتا البلد إلى ما هو عليه الآن من دمار وخراب قد فاق كل التصورات والتوقعات التي أطبقت على كل الحيثيات والتفاصيل والجزيئات الحياتية وطمس معالمها نظراً لما كانت عليه من إحكام القبضة القائمة في تقابلٍ وتغايرٍ يُظهر تميز سلوكياتهم القمعية النادرة، هذا هو ديدنهم الأول والأخير بحيث وصل بنا الخوف إلى درجة جعلنا نشعر من أن احد ما يسمعنا في ثغرة من البيت أو خلف حائط من حيطانه والأمتناع حتى بالتحدث بصورة ممتعضة مستهجنة عن السلطة أمام الصغار، لقد كانت حياتنا تمضي داخل الموت مثلما يمضي الموت في كل جزء من مساماتها وعلى الرغم من كل هذا الخوف فقد أخذت القراءة لديّ منحنى متصاعداً حتى اللحظة وكان أن تجمع عندي في بيتنا نتيجة لذلك وجبة هائلة من الكتب مما حدى بأمي رحمها الله ذات مرة إلى احراق الكثير منها بسبب من خوفها الغريزي من جهة وبسبب تعرض أخي الكبير اوائل السبعينيات من القرن الماضي إلى الاعتقال نتيجة مواقفه الفكرية آنذاك من جهة أخرى بحيث أقتنعت انه لم يعد في الإمكان الاحتفاظ ببعض العناوين واغلفة الكتب الملونة التي تزدحم بها مكتبة البيت أضافة إلى ان موضوعة الخوف هذه قد اثارت الكثير من الحساسيات التي أتخذت أشكالاً متباينة دفعت البعض من الأصدقاء إلى التخفي بعيداً عن عيون المخبرين أو التفكير بالسفر أو الهروب بشتى الطرق فقد أدركنا جميعاً أن القادم من الأيام سيكون اكثر شراسة مما هو عليه في تلك الفترة المليئة بالغرائز القاتلة المفعمة بالدم ولعل الروح الإقصائية المبكرة حينذاك والممارسات القمعية القاسية التي أمتدت حتى وقتنا الراهن هي المسؤولة عن إرساء أسس ودعائم الديكتاتورية وأنظمة القبضة الفولاذية فالفوضى العارمة المرئية منها واللامرئية والقتل المجاني والتهجير القسري وتجاوز البديهيات المتعلقة بأبسط حقوق الأنسان وآدميته وشيوع ثقافة الصوت الواحد جعلت من الطبيعة الديكتاتورية القائمة آنذاك الإيغال بالقتل حد التمادي مما جعل اللجوء إلى الصمت والانزواء حاجة ضمنية وتجنباً لمصائر غير محمودة العواقب وطالما كان الخوف هو المسيطر كانت الطمأنينة تتلاشى رويداً رويدا إلى ان أختفت مثلما اختفت الكفاءات المتميزة النادرة الادبية منها والعلمية إلى ان أفضى هذا الأمر لسيطرة الرعاع السذج الذين زرعوا الموت، الخرابوالكراهية والحقد في كل ارجاء البلاد.
 
3
بعيداً أو قريباً عن ذلك كان يقوم ، كما أحسب، عالمٌ لم يكن بوسعي سوى أن أحس به على نحوٍ محفوف بالمصاعب والمخاطر، ذلك العالم/التاريخ الذي عشت لاحقاً الكثير من دمويته أو مصائبه وحروبه التي كانت تبرز بشكل كبير في أجزاء متعددة من حياتنا الثقافية والسياسية فالتعايش الممض لأشكال الموت والمصادرة، التهميش، الإقصاء والتنكيل هي الأخرى كانت تنمو بصورة متصاعدة بحيث بدأنا نفقد الكثير من الأشياء والتفاصيل الحميمة والأليفة وبقدر ما كانت الحياة في مدينة بغداد، على وجه الخصوص، مطواعة ولينّة بقدر ما كانت متاحة ومباحة أمام موضوعة الخوف الذي تتلاعب به الأجهزة الأمنية القمعية وفي صدارتها (جهاز حنين) السئ الصيت وهو عبارة عن نسخة مصغرة/مكبرة من نظيراته الأخريات كسجن رقم واحد، قصر النهاية، مديرية الأمن العامة، الحاكمية، سجن الحلة والكوت، نقرة السلمان، الرضوانية، معتقل اللجنة الأولمبية، الشعبة الخامسة/مديرية الأستخبارات العسكرية، مركز شرطة السراي وصولاً إلى سجن أبو غريب، حيث كان أغلب العراقيين يعيشون على بعد سنتمترات من الموت فقد كان الفرد آنذاك يشعر به شأنه شان الكثير من المحسوسات الأخرى التي تحيط بنا نحن بني البشر وفي ذلك الوقت كان يمكن أيضاً لأي شخص ان لا يجهد نفسه كثيراً من أن يجد معنى مباشراً لمثل هكذا ممارسات على نحو دقيق، إنها سيرة الخوف القادم من كل مكان الذي يلاحق الحياة بالافتراس والبشر بالعصا والجمال بالقبح، الخوف الذي تغلغل حتى في علاقاتنا الشخصية ونام قرير العين وهادئ البال في كل مساماتنا أو ملابسنا.
عبثاً كنت أحاول أن لا أرى في الفضاء الأزرق الفسيح والضيق، في آنٍ، الذي يظلل البلاد جثثاً تذوي وجثثاً تموت وأخرى تهرب أو تلتزم الصمت فقد بدأ هذا اللوبي الحديدي يطبق تدريجياً على أنفاسنا فتختلط المرارات، الانكسارات والاحباطات المتتالية وتتغير مواضع أحزاننا وتتطاول خساراتنا المتلاحقة، كنت دائماً أتحدث إلى نفسي متسائلاً: ماذا عليّ ان أفعل؟ كان الجواب دائماً بكلمة لا أدري!!
لقد كان هذا السؤال المزمن دائماً يضعني أمام العالم وحيداً، أعزلاً وعارياً كما ولدتني أميّ وبدوري أقول، إن في صياغة هذا السؤال إشارة واضحة إلى المستقبل الذي تشكلت ملامحه من الأستدراكات المباشرة للواقع المأساوي الفريد القائم آنذاك، فلغة القتل هي لغة الحوار السائد التي تؤمّن للقاتل شكلاً حداثوياً من الوجود الذي يختصر فيه الطريق إلى القتيل بلا عناء وبلا توسّط بحيث يتقبل القتيل، على مضض، بداهة القاتل ولعل أول من صاغ هذا الأسلوب المسيطر والمحكم هو المسؤول الأول في جهاز حنين وكلنا يعرف ذلك منذ أن كان وإلى أن أنتهى في الأسم فقط أما الشكل أو الأسلوب فقد بقيّ يتجدد ويتكرر حتى يومنا هذا وتاريخ البلاد تؤكد تعددية وتراتبية أجهزة القمع التي أسستها وتؤسسها الحكومات العراقية المتعاقبة ككيانات تحفظ مصالحها وسياساتها المحكومة بأنظمتها السرية الخاصة وعسسها وأدواتها والتي بدورها تقوض فكر الآخر مهما كانت طبيعته وتوجهاته وبهذا تتم عملية تأمين الأطر المؤسساتية الضرورية لوجودها وديمومتها، هذا هو جوهر القمع، وتلك الأيام دليلنا وبرهاننا على ذلك، ولا اغالي أن قلت أن الخوف هو علامتنا الفارقة بامتياز ولا حاجة لأن نكتشف ذلك عبر المقموع والمكبوت فينا.
 
4
وهكذا لم ينتهِ الخوف بل يمكنني القول، أن هذا الخوف بما فيه من تبعات ومظاهر ملموسة متجددة وحول معنى هذا التجدد بعد سلسلة من الانهيارات هناك والهزائم هنا، هذا الخوف دخل مرة أخرى بفضل جميع المجددين مرحلة أكثر تقدماً، وأكثر توغلاً في الصميم، وأكثر تنوعاً أيضاً خصوصاً في مجالات التعذيب ووسائل البطش وأكثر تعددية كذلك من حيث الإقصاء والتهميش.
في ضوء ما تقدم، يتبين لنا إن الإصرار الفظ على لحظة الانعتاق بمعزل عن مجالها المعرفي، أدّى في ظل هيمنة الدكتاتورية وأمتداداتها بأشكالها وصيغها المتنوعة إلى تنامي ألوانٍ دكتاتورية عدة تجلت في معظم الأحيان عبر أنساق مختلفة من المعرفة المشوهة التي اتسمت على العموم بطابعها الايديولوجي العقائدي المذهبي المبرمج ذي الاتجاه الواحد وما تمخض عن ذلك كله تجسد في حصيلة فجة أرهقت كيان المجتمع وأساءت في الوقت عينه إلى المعرفة الحقيقية نفسها، وأسفرت في نهاية المطاف عن خرائب لا تحصى على المستويين المادي والروحي، الأمر الذي وضع البلاد والعباد عموماً على حدّ أزمة/أزمات معقدة تقتضي معالجتها وقتاً وجهداً كبيرين، ولعل النقطة المحورية التي ينبغي الكشف عنها ها هنا تتشخص في تلك الوجوه والعاهات والاقلام والصحف (المشتراة) والمؤوسسات المملوكة العائدة إلى الواجهة مع بعض التعديلات الحرباوية تمهيداً لتسلم مقاليد الأمور، وبصرف النظر عن هذه المسائل كلها، نرى ان مناخ البلاد الحالي الذي هيئته (الديمقراطية الجديدة) يدفعنا إلى إعادة طرح السؤال الابدي الذي يمثل حصيلة جملة تساؤلات فرعية تتعلق بموضوعتي المقموع والمكبوت: ما مدى المصداقية المعرفية راهناً في تذكرنا اليوم، على الرغم من كل ما قد يشكل عائقاً من عوائق التواصل؟

إقرأ أيضا