حين كان للشوارع أسماء*.. رواية تماهي الواقعُ والمُتخيَّل في بنية السَّرد

تستثمر المؤلفة رندة عبد الفتاح براءة الطفولة وعفويتها، في الكشف عن تراجيدية الحياة في تفاصيل يومية صغيرة عادة ما يواجهها الانسان الفلسطيني، وهو يحمل عذاباً على كتفيه ــ مثل صخرة سيزيف ــ في وطن يتلاشى أمام عينيه.

وطنٌ تقطَّعت أوصاله بجدران وحواجز كونكريتية، وأمست عديد مُدنه مُحرَّما عليه أن يدخلها. وأخرى لا يستطيع الوصول إليها إلاّ بتصاريح خاصة تصدرها سلطات الاحتلال وفقاً لمشيئتها.

حياة، ليست سوى طفلةٍ لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها، ارتأت المؤلفة أن تكون الشخصية الرئيسة في هذه الرواية، من خلالها ستحاول أن تُغافل النسيانَ حتى لا يختم الذاكرة بالمحو والفقدان الابدي. ومن خلالها أيضا ستواجهُ وجعَ الانتظار الطويل بالأمل. وكأنها أرادت ـــ وعبر انحيازها التام لشخصية حياة وطفولتها الانثوية المفعمة بحيويةٍ ونشاطٍ يميل إلى عالم الذكور أكثر منه إلى الاناث ــ أن ترمم انكسارات الأمس، وحطام الدموع، وما تكدَّس من خساراتٍ في وطنٍ هو الفردوس لأبناء مقاومين ومشردين ومهجرين.

الرواية كُتِبتْ وفق رؤية واقعية تسجيلية، حرصت المؤلفة فيها على أن تُلملِم مُفرداتٍ ومُنمنماتٍ عادة ما تتناثرُ وتتسربُ في تُتشابكات الحياة الانسانية بشكل وشيج، دون أن ننتبه إليها، ليصل الحال بنا أن نتساءل ونحن نقرأ النص ــ مثلما تتساءل الناقدة باتريشيا واو ــ عن الحد الفاصل بين ماهو متخيل وماهو واقعي، ما هو روائي وما هو حقيقي.

حياة: \”في النهاية عندما تَفلحُ سِتّي زينب في الرقود على السرير، وتغوص رأسها في الوسادة، فإنها تصيح \”يارب\” ويأخذ صدرها في اللهاث من الجهد الذي بذلته. وعادة ما تشعر بعدما تضرط بالارتياح، ضراطها دائما عالي الصوت، ولكنّه قليل الرائحة. جيهان وأنا نُحكم وسائل الدفاع. الرؤوس تحت الوسائد، والضحكات مكتومة، وفي بعض الأحيان نرش مُزيل العَرَق الرخيص على  الوسائد. أمّا طارق فلا يتمالك نفسه: \”ستّي زينب، سوف أطلب من الاسرائيليين قناعا للغازات\”.

التمهيد لهذا الاسلوب الواقعي السلس، الثري بصوره الانسانية، والذي يخلو من التعقيد والزّيف اللغوي، جاء متصدراً الصفحة الاولى، في عتبة الاهداء،: \”إلى ستّي جميلة، جدّتي التي توفيت في الرابع والعشرين من ابريل عام 2008 عن ثمانية وتسعين عاما، تمنَّيت أن تعيشي حتى تَري كتابي هذا، وحتى يسمح لك بأن تلمسي تراب وطنك ثانية.عزائي أنك توفيت محاطة بإعزاز أبي والاسرة والاصدقاء. فلترقدي في سلام. وإلى أبي، أتمنى أن ترى في حياتك فلسطين حرّة\”.

لم تلجأ رندة عبد الفتاح الى تقنيات سردية مُتعددة ومعقّدة لأجل تحقيق التواصل مع المُتلقي،بِقدرِ ما كانت البلاغة الفنية التي استندت إليها قد اعتمدت وسائل سردية تتوخى الايهام بالواقع، واستبعاد التعليقات والاحكام حول الشخصيات، وتغيّرات وجهات النظر داخل العمل.

وبنفس الوقت التركيز على اختفاء صوت الكاتب السارد المُنتج للنص، مقابل حضور صوت السارد المُمَسرح (المُشَخَّص) المُدرِك والعارف بالأحداث ــ شخصية حياة ــ وهذا يتوافق مع قول الناقد واين بوث في كتابه المعنون بلاغة الرواية: \”الكاتب يمكن إلى حد ما أن يختار التَّنكر، ولكنه لا يمكن أن يختار الاختفاء أبداً\”.

المؤلفة رندة عبد الفتاح عهدت إلى شخصية حياة مسؤولية سرد احداث الرواية التي تقع في فترة زمنية مضغوطة خلال فترة تتجاوز الشهر بأيام معدودة، ومحددة بالعام 2004 ولاشك أنها تقصّدت أن تكون الاحداث ضمن هذا الحيّز الزمني، لأجل أن تنضغط وتنفرج التفاصيل اليومية لأناس رغم خساراتهم يعشقون الحياة، في مسار حكايةٍ مرهونةٍ بسلطةِ ومزاجِ قوات الاحتلال، فما كان أمامهم سوى خيار الحياة، أن يعملوا ويتسامروا ويتزوجوا ويسخروا، وبذلك يمكن أن يحافظوا على وجودهم وملامحهم وأثارهم، لأن سلطة الاحتلال الاسرائيلي جلّ ما تسعى إليه أن تمحوها هذا إذا لم تشوهها كما تشوّهَ وجه الطفلة حياة بشظايا رصاصة أطلقها جندي اسرائيلي أثناء مظاهرة كانت قد انطلقت في شوارع بيت لحم، وصادف أنها كانت عائدة من المدرسة مع صديقتها مايسة التي لم يحالفها الحظ بالنجاة، لتسقط مضرجة بدمِها بعد أن تهشمت جبهتها.

شخصيات الرواية إذن تعيش حياة مرهونة بسلطة عسكرية محتلة، حتى أنها صارت بالنسبة لهم بمثابة مَشيئةٍ قَدَريّة تُعلن عن نفسها ــ وهي تُقنِنُ حياتهم ــ بكل اساليب القهر والاذلال، وليس أقلها سوءاً قرار حظر التجوال. لكنهم يعيشون على أمل كبير بِتَغيُّرِ وتغيِيِر الاحوال نحو طبيعتها الانسانية، ما إن يرفع حظر التجوال لساعات معدودة.

حياة: \”عمري ثلاث عشرة سنة وأعرف معنى الدَّم.أعرف ماذا يعني أن نفقد الأحبّة. أعرف رائحة الجثة. أعرف شكل الجسم يسوّى تحت دبابة. أعرف سُحُبَ التراب والغبار التي يخلفها بلدوزر مسعور. سوف يتم الانتهاء من الجدار قريبا. وسوف تُهجَّرُ أجزاء كاملة من بيت لحم. سوف تُغلق الاعمال، تُهجّرُ البيوت، تخلو الشوارع، تُقسَّمُ المدارس إلى نصفين. إنني أعيش في سجن مفتوح. ولكنني لن أعيش في يأس.لأن عمري ثلاث عشرة سنة، وهذا ما أعرفه ايضا. إنه طالما كانت هناك حياة سوف يكون هناك حب\”.

استخدمت المؤلفة تقنية ضمير المتكلم السارد للأحداث/ بصيغة الحاضر، وبشكل منفرد، وكأنها بذلك تسعى الى تعميق الاحساس لدى القارئ بالتواصل القائم ما بين الأحداث المتخيلة في مخطوطة الرواية وما يجري على ارض الواقع من أحداث.

حياة: \”عربة جيب عسكرية تغلق الطريق.عَلمٌ اسرائيلي هائل مرفوع في الهواء بأعلى ساريته.على جانبي الجيب يقف جنود مسلحون برشاشات عوزي وببنادق آلية. يضعون نظارات شمسية سوداء وفي ايديهم أجهزةاللاسلكي المتنقلة. ينتابني إحساس مفاجىء بالحاجة إلى التبول فأضغط ساقا على ساق\”.

أحداث الرواية تدور على أرض فلسطين، حيث يرزح سكانها تحت الاحتلال الاسرائيلي ومايفرضه هذا من تقطيع حادٍ للزمنِ وللمكان، وما يفرِضُه أيضا من وقائعَ ومصائر. فحظرالتجوال يُمكن أن يُفرَضَ لعدة ساعات أوأيّام وفي أيّة لحظة، ليشكل لعنة قدرية يومية تنزِل ثقيلة على حياة الناس لا يمكن تفاديها، ليقبعوا في بيوتهم مرغمين، وبموجب ذلك يتم تأجيل الكثير من أعمالهم، فيصيبهم تذمرشديد وهم محاصرون في بيوتهم، مع أحلامهم وآلامهم: \”أفكِّر في مَضار حظر التجوال وفوائده.. مِن ناحية، هناك المَلل من البقاء دائما في المنزل، والقيام بالاعمال المنزلية، والتعامل مع مَلل ماما وبابا\”.

الشخصيات الرئيسة في هذا العمل تتشكلُ من عائلة فلسطينة قوامها: الزوج والزوجة، وابنتاهما، جيهان الكبرى التي سيتم زفافها خلال أيام، حياة (ثلاثة عشر عاما)، وطارق (سبعة أعوام)، ومحمد (ثلاثة أشهر)، والجدة زينب (تجاوزت العقد الثامن من عمرها).

تُقتلعُ هذه الاسرة من أرضها التي تملكها في مدينة بيت جالا، وتبلغ مساحتها 75 دونما، ومعها تُقتلع اشجار الزيتون من البستان المحيطة  بالبيت الكبير.

حياة : ذكرياتي عن بيت جالا تشبه لحافا مُرقَّعا بالثقوب .

تعوَّد والدُ حياة أن يُردِدَ أمامها، بأن شجرة الزيتون جزء من تراثهم وهي شجرة مقدسة، ولهذا ذُكرت في القرآن. حتى أنه يُخطئ اثناء حديثه لها فيستبدل النخلة التي التجأت اليها مريم العذراء ساعة الولادة بشجرة الزيتون، فتُصحِحُ له المعلومة،ومع هذا يشكِكُ  بصحة ماتقوله.

جرافات الجيش الاسرائيلي تهدم البيت وتجرف المزرعة مع بقية بيوت القرية ومزارعها أمام ساكنيها العاجزين عن وقف قرار سلطة الاحتلال رغم ما يبذلونه من محاولات في سبيل إعاقة تقدم الجرافات، فتنتقل العائلة مُرغمة إلى مدينة بيت لحم التي تبعد مسافة عشر دقائق عن الارض التي كانت قد توارثت ملكيتها جيلا بعد جيل.

حياة: \”تغيَّرَ بَابَا.. في بيت جَالا كان صوته وهو يمزح عاليا، وكان عمله في ارضه يُسعدهُ، وكنّا نشعر بهذه السعادة عندما يعود إلى البيت في المساء. أمّا في شقتنا في بيت لحم فكان يجلس في صمت يدخن الارجيلة ويغيّر قنوات الأخبار في التلفزيون. فقدان أرضنا جعله ينفجر إلى داخله، ولم يكن لدينا وسيلة لنرى الدليل على ما حل به من دمار، فقد احتفظ بالرُّكام والحُطام بداخله، إذ لم يعد يتكلم أو يضحك أو يحكي الحكايات كما كان يفعل من قبل\”.

الابنة الكبرى جيهان تستعد لزفافها على أحمد، الشاب الفلسطيني الذي يحمل الجنسية الاسرائيلية، لأنه من عرب 48، ويسكن مدينة اللّد. وهذا ماسيمنع بالتالي من دخول جيهان واهلها الى هذه المدينة، لذا يقرر الزوجان الشابان أن يسكنا في مدينة رام الله التي تقع في منتصف المسافة الفاصلة ما بين بيت لحم ومدينة اللّد بعد أن يتزوجا، حتى تتمكن عائلة جيهان من زيارتهما بين فترة وأخرى وحتى يستطيع الاحتفاظ بوظيفته.

الحدث الرئيسي للرواية يتمحور حول القرار الذي تتخذه حياة مع نفسها بالسفر الى مدينة القدس بعد أن تخرج من المدرسة يرافقها صديقها المسيحي سامي من أجل أن تحقق حلم جدتها زينب ــ قبل أن تموت ــ في أن تشمَّ حفنة من تراب قريتها التي كانت تسكنها.

ورغم مخاطر الطريق المؤدي الى القدس الذي يبعد أكثر من ساعتين عن بيت لحم، بسبب الحواجز ونقاط التفتيش الاسرائيلة التي تمنع أي فلسطيني لايملك تصريحا في الدخول اليها، إلاّ أنَّ حياة وسامي يخوضان غمار هذه الرحلة دون تردد، فيتمكنان من دخول مدينة القدس بعد أن يخوضا مغامرات ومخاطر يجتازان خلالها حواجز وجدران عازلة تحاشيا لنقاط التفتيش الاسرائيلية.

ومع ذلك لا يتمكنان من الوصول الى القرية التي كانت تسكنها الجدة زينب بسبب انسداد الطرق المؤدية إليها نتيجة اندلاع تظاهرات ومواجهات بين متظاهرين غاضبين والشرطة الاسرائلية. لذا لا تجد حياة مفراً من أن تملأ علبة حمص فارغة بتراب القدس بعد إشارة تتلقاها من يوسي، سائق تكسي يهودي، التقيا به في القدس واتفقا معه على ايصالهما الى قرية الجدة زينب. وفيما بعد، يوسي هذا سينقذ حياة من الموت، بعد أن تفقد وعيها، وتسقط على الرصيف وسط المتظاهرين بسبب الغازات التي اطلقتها الشرطة الاسرائيلية. تعودُ حياة الى البيت حاملة العلبة الى جدتها، بعد أن توصلت إلى قناعة واضحة، بأنْ: لا فرق بين تراب القُدس وتراب القرية. ولتعترف أمام جدتها بأنها قامت بهذه المخاطرة من أجل ان تحضر لها بعض تراب من قريتها.فلم يكن امام الجدة إلاّ أن تشعر بالذنب .

الجدة: \”غَرَستُ أنا البذرة.لاأزالُ أنا المسؤولة. انني حمقاء، إن رجلي في القبر ولاتزال روحي مُمَزقة، نصفها في قريتي،ونصفها هنا. حتى على الرغم من أن رأسي يخبرني أنني سأموت في هذا المنزل، في هذه البلدة، لابد أن أعترف لك يا حياة أن قلبي يهمس لي بوعود خائنة، سوف تعودين، إنَّه يخبرني بذلك. إنّ الأمرَ لا يُجدي أن نتعلق بأملٍ زائفٍ. ولكن الأمر لا يجدي أن نعيش بدونه كذلك..أوه، هاأنذا مرّة أخرى.علي أن أتوقف عن الحديث. 

إضافة الى الشخصيات الاساسية فقد حفلت الرواية بعدد من الشخصيات الثانوية، عكست بحضورها، خصوصية الواقع الفلسطيني وحيويته، مثل ديفيد ورفيقته موللي اليهوديين، وهما من مواليد تل ابيب، لكنهما هاجرا الى اميركا، وحصلا منذ عشرة اعوام على الجنسية الاميركية، وهما الآن في زيارة عمل لانهما يعملان مع جماعةٍ لمراقبة حقوق الانسان، لذا لم يترددا في مساعدة حياة وسامي في الوصول الى القدس بعد أن يلتقيا بهما صدفة في الباص. أيضا شخصية سامي المسيحي، صديق حياة وزميلها في المدرسة، الذي يحلم أن يصبح في يوم ما لاعب كرة قدم شهير، وكان اعتقال والده من قبل سلطات الاحتلال قد أيقظ في داخله روح التمرد على واقع بائس ومهين سلبه ابسط حقوقه الانسانية .

حياة: سامي.. أبوك بطل، مُعتقل كل تلك السنوات بدون سبب غير تنظيم الاحتجاجات والاضرابات.

سامي: أبي قايض بي من أجل القضية .

علاقة الصداقة الوثيقة التي جمعت سامي بحياة، أوالعلاقة التي جمعت عمه جوزيف وزوجته كريستيناــ اللذين تكفلا بتربيته بعد اعتقال والده منذ سبعة اعوام ـ مع عائلة حياة، عكست جانبا مشرقا واصيلا لطبيعة المجتمع الفلسطيني، وهو يواجه سلطات الاحتلال بوحدة مكوناته الدينية. وهو أمر واقعٌ وحقيقي، اثبتته مواقف وأحداث نضالية خاضها الشعب الفلسطيني ــ مسلمين ومسيحيين ــ دفاعا عن حريته ووجوده ومقدساته، ولا يأتي تسويق هذه الصورة في هذا العمل الروائي من باب التزييف لحقائق مناقضة لها تجري على ارض الواقع.

* رواية للكاتبة رندة عبد الفتاح.. ترجمة: أميرة نويرة ونبيل نويرة.

إصدار: دار بلومزبري – مؤسسة قطر للنشر

إقرأ أيضا