عبد الجبار الرفاعي ومشروع: \”إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين\”

لا تنحصر أهمية هذا الكتاب في المحاور ونوع الاهتمامات التي تضمنها وحسب، بل في الوقت الذي جاء فيه، حين انكمشت \”النزعة الإنسانية\” مقابل هذا السيل الكاسح من فضلات الموروثات السامة، التي مسخت ذلك المخلوق الذي كرمته السماء، إلى مجرد دابة ملغمة تتفسخ وسط عيال الله.

في المواضيع والأوراق العلمية والحوارات الهامة التي نثرها الرفاعي في كتابه هذا، نشعر به مقتفياً ذلك الوجع الجميل الذي كثّفته عبارة التوحيدي المعروفة: \”الإنسان أشكل عليه الإنسان\”. انه يدعونا إلى ذلك الإرث المنسي من الضدّ النوعي لكل ما نشاهده مهيمناً في حال هذه المجتمعات الرازحة تحت وطأة الجهل والكراهية والأحقاد والخوف منذ أكثر من ألف عام، يدعونا إلى تلك المحطات المشرقة والمترعة بالجمال والمحبة والإبداع، حيث لا أثر للكراهية والقبح والدروب التي تنتهك كرامة البشر، إلى ذلك الطريق الذي يوجزه محمد مجتهد شبستري بعنوانه المكثف: \”الله يريد منا حقوق الإنسان\”.

هذا الكتاب الذي صدرت طبعته الثانية المنقحة هذا العام (2013)، وصدر عن مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد بالتعاون مع دار التنوير للطباعة والنشر في بيروت، يتضمن 256 صفحة، ويأتي هذا الكتاب في سياق إصدارات سلسلة \”تحديث التفكير الديني\”، التي يشرف عليها الدكتور عبد الجبار الرفاعي. 

وقد صدر منها أربعة كتب، الأول هو كتاب \”قوة الدين في المجال العام\”، ويتضمن ندوة هامة شارك فيها: الفيلسوفان الألماني يورغن هابرماس، والكندي تشارلس تيلر…وغيرهما. وعرّبها المترجم العراقي المعروف: فلاح رحيم.

أهدى الرفاعي هذه الطبعة الجديدة من كتابه بعبارات اكتنزت بمغزى بعيد الغور، كتب فيه:

إلى صديقي:

المتصوف خارج إطار الأديان 

المرحوم كامل شياع

وكل من يعرف شيئاً عن تعقيدات الحالة العراقية وحجم اللبس والغموض التي يحيط بها نتيجة عقود من التزييف والمسخ لروح الإنسان وبوصلته، يدرك نوع الشحنات التي حملتها مثل هذه العبارة العابرة للبرك الآسنة السائدة في هذه المضارب المنكوبة بالأحقاد والثارات. 

يتضمن هذا الكتاب 13 موضوعاً، تتضمن أوراقا علمية شارك بها الدكتور عبد الجبار الرفاعي في عدد من اللقاءات والمؤتمرات العلمية وحوارات، منها: الدين هو الذي يمنح الكائن البشري معنى لحياته وسلوكه/ في حضرة مولانا: سياحة في عالم المعنى/ اختزال الدين في الأيديولوجيا/ فلسفة الدين ولاهوت الحرية/ من أين تشتق الكراهية مفاهيمها؟ وغير ذلك من المحاور الهامة.

في كتابه هذا يطرح الرفاعي حزمة من التساؤلات التي تساعد القارئ الجاد على التحرر من الكثير من الأثقال والأباطيل التي عفا عليها الزمن، وتثير فيه الهمّة لسبر دروب البحث الجريئة، من أجل الوصول إلى ضفاف المعارف التي تساعد الإنسان على الارتقاء بوجوده ومستقبله.

من تلك التساؤلات على سبيل المثال لا الحصر: التساؤل عن سبب عدم الاهتمام بالاتجاهات الجديدة في قراءة النص، وعدم التعاطي مع الهرمنيوطيقا الحديثة وأدواتها في تفسير النص. وعن موقع التجربة الدينية.. وغير ذلك من الأسئلة التي تثير الفضول المعرفي والهمّة للتواصل مع متطلبات عصرنا المتسارعة والمتعاظمة.  

ومن خلال هذا الفيض من التساؤلات يجد القارئ نفسه أمام برنامج جاد لإنقاذ \”النزعة الإنسانية في الدين\” من خلال الدفع صوب مشروع \”بناء (علم كلام جديد)، يصوغ لنا صورة رحيمة للإله، تخلّصنا من العلاقة الصراعية المأزومة بين الله والإنسان، وتنقلنا إلى نمط علاقة شفيف دافئ، يقوم على المودة والشفقة، ويستقي من روح العشق والمحبة، كما في آثار تجارب المتصوفة والعرفاء\”.

ومن خلال قراءة عميقة لمجريات الأحداث المريرة التي يمرّ بها وطنه وباقي بلدان المنطقة، يأتي ذلك المشروع بوصفه استجابة لحاجات عميقة وضرورية لا محيص عنها، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الكوارث المحدقة بهذه الأوطان القديمة. يقول الرفاعي عن ذلك: (إن البنية الاجتماعية القمعية تنتج تصوراً للإله قمعياً، فيما تنتج البنية الاجتماعية الإنسانية تصوراً شفيفاً، شفافاً، رحيماً، وتتحول إلى حاضنة مثالية لنشأة وتطور \”لاهوت الشفقة\”. 

وما أحوج مجتمعاتنا لـ \”لاهوت الشفقة\” في عصر تضج فيه بلادنا بدعوات الكراهية وإبادة شركائنا في الوطن، ويجند فيه فتيانها وشبانها من أجل الموت لا الحياة، لأن \”الموت أسمى أمانينا\” فيغدو القتل والقتال مهنة وفروسية في أوطاننا). وبالضد من دعوات الكراهية وفضلات الموروث السامة ينقلنا الرفاعي إلى حيث منبع المحبة والعشق ذلك الإرث المنسي عند مولانا جلال الدين الرومي، والذي فتح له العشق طرقاً لانهائية إلى الله، حيث ينشد في المثنوي:

بالمحبة تصير الأشياء المرة حلوة

بالمحبة تصير الأشياء العكرة صافية

بالمحبة تصير الآلام شفاء

بالمحبة يحيا الميت.

قد تبدو مثل هذه الدعوات طوباوية للبعض، خاصة في مثل هذه الشروط والمناخات التي تحكم قبضتها على المشهد الراهن المتخم بالهمجية والقبح والانحطاط. لكن عندما ننتزع أنفسنا من براثن مثل هذه التوازنات الشاذة والنزاعات المنحدرة إلينا من ثارات القرون السالفة، سنجد أن مثل هذه المشاريع السلمية والدعوات الميالة للتعايش والحلول البعيدة عن أساليب البطش والقوة المفرطة، هي التي تشكل ملامح العصر والحياة ومتطلبات الحياة على هذا الكوكب الذي يزداد تراصاً واندماجاً. وما تجربة الديمقراطية الأكبر على هذا الكوكب في بلاد المهاتما غاندي، والتطور والاستقرار الذي أهدته منظومة \”اللاعنف\” لهذا البلد الواسع والكبير، إلا مثالاً على واقعية وحتمية مثل هذه الخيارات الإنسانية المجربة.

في إحدى المحاور الأساسية للكتاب \”من أين تستمد الكراهية مفاهيمها؟\”، يدعو الكاتب إلى البحث عن السبل (لتحرير الدين من الفهم المتوحش والذي يشوه الدين فيحيله إلى منبع للعدوان والتعصب والكراهية)، ومثل هذه المهمة تدعونا مرة أخرى إلى اقتفاء أثر الموضوع الأساس الذي وضعه المؤلف عنواناً لكتابه القيّم هذا، أي \”النزعة الإنسانية في الدين\”، ومن ثم إضاءة الحقول المنسية في النصوص المقدسة وغايتها النهائية؛ (كرّمنا بني آدم) المتنافرة وتلك المنظومة التي تفتك وتنتهك حقوق عيال الله وكرامتهم.

أما في الفصل الخاص عن \”مفهوم الدولة في مدرسة النجف\” فنجد فيها الكثير من الإشارات العملية الضرورية، والتي تعكس فهماً عميقاً للكثير من الالتباسات والحلول التلفيقية، التي لم توفق في تحديث الفكر الديني. وفي إحدى تلك الإضاءات يقول: (وعادة ما ينتهي الخلط بين مفاهيم مشتقة من سياقات مختلفة إلى ولادة هجينة، أو \”تهجين المفاهيم\”. وهذه واحدة من أهم إشكالات الفكر الإسلامي الحديث، إذ إن الكثير من محاولاته التجديدية تعاني من أزمة تجاهل السياقات الفكرية والسياسية والاقتصادية التي ولدت فيها المفاهيم الغربية، التي يتم استعارتها ودمجها في المنظومة الفكرية الإسلامية، وهو ما يولّد بدوره مجموعة من المفاهيم الملتبسة التي يصعب إن لم يكن يستحيل، أن تسهم بنحو مثمر في تطوير الفكر الإسلامي..). 

وفي زاوية أخرى من الكتاب يسلط الضوء على ذلك الكم الهائل من الترهل الذي يعيشه الفقه التقليدي السائد، إذ يقول: (.. وكان الفقه يترهل وتستبد به مشكلات مزمنة يعيد تكوينها على الدوام، وتتكرس أدواته وأساليبه المتوارثة في الاستنباط، ويكرر ذاته باستمرار، من دون أن ينفتح على فضاءات رحبة، تمنحه القدرة على مواكبة الحياة، والإصغاء لإيقاع المتغيرات الشديدة التعقيد والتنوع).

مثل هذه الدعوة للانفتاح على الحياة وعلومها ومتطلباتها المتغيرة على الدوام نجدها تصدح في الكثير من زوايا ومحاور هذا الكتاب الهام، إذ يدعو إلى فتح الأبواب والنوافذ أمام العلوم الجديدة، وان المعرفة الدينية لا يمكن أن تبقى بعيدة عن كل هذه الفتوحات العلمية والقيمية. عن ذلك يقول: (المعرفة الدينية كأي معرفة أخرى، هي حصيلة جهد البشر وتأملاتهم، وهي دائماً مزيجاً من الآراء الظنية واليقينية، والصواب والخطأ، ولا شك فان الوعي البشري كلما تنامى واعتمد على مقدمات وأدوات علمية صحيحة، اتسعت لديه مساحة الصواب وتقلص الخطأ. وهذا لا يعني أن الوحي الذي أتى به الأنبياء يكمله البشر، وإنما يعني إن فهم البشر لمضامين الوحي وكلماته يتكامل تبعاً لتطور العلوم والمعارف البشرية، أي إن المقدس والكامل هو الوحي، أما الفهم البشري له فانه ليس كاملاً ولا مقدساً).

أما في الفصل الخاص عن \”محمد عبده ومحمد إقبال: رؤيتان في تحديث التفكير الديني\”، فلن نحتاج إلى جهد كبير لنعثر على حلقة أخرى من الاضاءات والمقارنات العلمية الدقيقة بين عالمين وبيئتين مختلفتين واجهت قضايا مشتركة غير أنهما قدمتا لنا إجابات وحلولا مختلفة، ذلك ما بحثه الدكتور الرفاعي بمهنية وموضوعية عالية، وهما تجربتي الشيخ الإمام محمد عبده في مصر والمفكر الإسلامي محمد إقبال من شبه القارة الهندية، ذلك العالم الذي يكتنز كما هائلا من الثقافات المتنوعة. وفي هذه الدراسة يعود بنا الكاتب كحصيلة لتلك التجارب إلى المهمة الحيوية، ألا وهي المعرفة الدينية وعلاقتها باللاهوت الجديد. إذ يقول: (إن تشكيل معرفة دينية مواءمة للعصر يتوقف على إعادة بناء لاهوت جديد، أو فلسفة دينية تحدد لنا مكانة الإنسان في العالم، ونمط العلاقة بينه وبين الله، وحقيقة الدين، وحدوده، ومجالات التدين، وطبيعة الظاهرة الدينية. وهذا النوع من الأبحاث يتطلب التحرر من الابستومولوجيا الكلاسيكية، وتوظيف معطيات الابستومولوجيا والعلوم الإنسانية الحديثة في الدراسات اللاهوتية).

وعبر سطور هذه الدراسة نكتشف جوانب من تلك الشبكة من المعوقات الذاتية والموضوعية التي أعاقت تلك المحاولات الإصلاحية الرائدة، وكيف تحولت دعوات الإصلاح والتجديد بيد رشيد رضا وحسن البنا ومن ثم سيد قطب إلى مشروع لإعادة إنتاج السلفية والتقليد في مصر. وعن ذلك الخطر المميت والإمكانية السلبية التي تحولت إلى واقع يكتب الرفاعي: (إن أدلجة الدين والتشديد على دنيويته يفضي إلى تفريغه من مضمونه الروحي، ويستغرقه في مجالات بعيدة عن العوالم الجوانية الباطنية للإنسان، وبدلاً من أن يعمل على تطهير الباطن، وترسيخ النزعة الإنسانية والمعنوية، وتربية الذوق الفني، ومنح العواطف رقة وشفافية، بدلاً من ذلك كله يتحول الدين إلى وسيلة للكراهية، وأداة للاحتراب والصراع). وعن الدور لذي لعبه الجيل الذي تصدى للمسؤوليات الدينية بعد رحيل الإمام المجدد محمد عبده يقول الرفاعي: (لقد كان استبعاد رشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب لتراث الفلاسفة والعرفاء والمتصوفة، ونعته بأنه تراث باطني ضال ومنحرف، ونفي التجربة الروحية عن الإسلام، أحد أهم العوامل لتنامي التيار السلفي النصوصي الحرفي، وهيمنته على الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية في دنيا الإسلام اليوم. وعجز التفكير الديني لدى الإسلام الأصولي، وقصوره في الانفتاح على ما يعانده من الأفكار).

وفي هذه الحصيلة يدعو الكاتب إلى ضرورة العودة إلى ذلك التراث الذي تركه محمد عبده، والى ضرورة غربلته وترشيقه من أوزار الأحكام التبجيلية ومنطق الثناء والمديح الزائف… ومن ثم إلى التمييز بين المعرفة البسيطة في آثار محمد عبده، عن تلك المركبة والعميقة في آثار محمد إقبال.

وهنا يحذّرنا الدكتور الرفاعي من عاهة شائعة في الوسط الثقافي، إذ يقول: (إن الأحكام العاجلة والمواقف التبجيلية لا تكف عن الارتقاء بطائفة من الكتاب والصحافيين الاحيائيين، والمبشرين بالنهضة، ودعاة الإصلاح، فتجعلهم فلاسفة كباراً ومفكرين عمالقة. وهي عاهة ثقافية شائعة في آرائنا وكتاباتنا المتأخرة، كتعويض عن مأزقنا الحضاري، وتخلفنا وعجزنا عن المساهمة أعياد التاريخ، وانجاز المعطيات العلمية والمعرفية والمدنية للعصر).

إسلامية المعرفة:

كما يضم الكتاب ورقة علمية قيّمة قدّمها الدكتور الرفاعي في ندوة المعهد العالمي للفكر الإسلامي المنعقدة بمدينة اسطنبول، بمناسبة مرور ربع قرن على تأسيس المعهد، سنة 2006، عالج فيها قضية هامة وساخنة وكانت تحت عنوان \”إسلامية المعرفة.. قضية آيديولوجية من دون مضمون معرفي\”، وفيها يجد القارئ نفسه برفقة بواكير النشاطات والانبثاقات وتشكل المدارس الفلسفية إلى حيث عصر النهضة، والدور الحيوي الذي شغلته المعرفة في اهتمامات فلاسفة الغرب الكبار، وصولاً إلى عصر التنوير وارتقاء المعرفة إلى حيث الذرى في الأهمية. وعن مكانة المعرفة في التراث الإسلامي يأخذنا الرفاعي إلى حيث البوابة الأولى ومفردة \”اقرأ\”، والتي تنبثق عنها باقي محطات الاهتمام بذلك المحور الأساس؛ المعرفة، والتي اغتنت ملامحها بجهود علماء الكلام والمتصوفة والفلاسفة والعرفاء، كل بحسب مسلماته وأدواته وآلياته. كما يتوقف عند تجلياتها لدى الاسلاميين في العصر الحديث منذ الشيخ محمد عبده ومحمد إقبال إلى السيد محمد حسين الطباطبائي والسيد محمد باقر الصدر، إلى الجماعات الإسلامية التي ظهرت في غير القليل من البلدان الإسلامية، ووضعت مسألة المعرفة على رأس أولوياتها واهتماماتها، ومن الشخصيات الفكرية التي تميزت بنشاطها في هذا المجال الدكتور عبد الكريم سروش، والذي أثارت أطروحاته في \”القبض والبسط في نظرية الشريعة\”، و\”التعددية الدينية\”، و\”البسط في التجربة النبوية\” الكثير من السجال.

كما نجد في هذه المساهمة النقدية القيمة التأكيد على الاستيعاب النقدي للمعارف، بوصفه شرطاً للإبداع الذاتي ومن ثم الإسهام في إنتاج المعرفة، في الوقت الذي يحذر فيه من منهج تحويل المقولات التراثية النسبية إلى مقولات مطلقة، حين يشير إلى: (ان التعاطي النقدي مع المعرفة الحديثة، والذي طالما أضحى موقفاً هجائياً، يتوارى خلفه موقف تبجيلي يغيب فيه النقد إزاء التراث، فلا نعثر على دراسات نقدية جادة للتراث لدى الإسلاميين، بينما تتراكم الكتابات في نقد الغرب وهجاء حضارته وقيمه وعلومه، بلا تمييز بين وجوه الغرب \”الحضاري، والمعرفي، والتقني، والثقافي، والتاريخي، والسياسي، والاستعماري\”..).

إن مثل هذه العيوب البنيوية في التعاطي مع كل ما يمت بصلة لـ \”الآخر\” المختلف سيفضي بنا إلى متاهات لا تحمد عقباها، وكل من يتابع المشهد الراهن في البلدان الإسلامية و ما يعرف اليوم بدول الربيع العربي خاصة، يلمس مخاطر مثل هذه التوجهات المتنافرة وحاجات هذا العالم الذي يزداد تعددية وتراصاً. وعن ذلك يقول الرفاعي: (إن الاحتماء بالتراث، واتخاذه ملاذاً أبدياً، واللجوء إليه في كل واقعة من وقائع الحياة، كفيل بأن يحوّل التراث من ملاذ إلى سجن، ومن كهف إلى نفق،أو بئر، يحجب من يحتمي به عن الحياة، ويغيّبه عن العالم، ويمنعه عن المشاركة في صناعة التاريخ).

كما يسلّط الضوء على إحدى الاهتمامات التي تستنزف جهوداً وإمكانات لا حدود لها من دون أية جدوى سوى الهدر والغوص عميقاً في دروب المتاهة والضياع، ألا وهي محاولات \”تديين المعرفة\” وأدلجتها هذا الهدف الذي تورّم بشكل لا يتخيله العقل بفعل حماسة دول الرزق الريعي. وعن ذلك يؤكد استحالة بناء منظور علمي للطبيعة والكون والإنسان عبر الاستعانة بالرؤية الكونية التراثية التقليدية، وخير دليل على ذلك هو مرور أكثر من ربع قرن على مثل تلك الدعوات من دون ظهور أية محاولة جادة لصياغة وبناء أي علم إسلامي من العلوم الاجتماعية..! 

العقلانية سبيل النجاة:

منذ أكثر من ألف عام وعام تعرضت مسيرة العقلنة في هذه المضارب إلى ضربات موجعة وقاصمة، وبعد قرون من السبات والركود انكمشت عقلنة أمور الحياة والكون إلى مستويات لا مثيل لها، حيث تقبع شعوب وقبائل هذه الأوطان القديمة اليوم في قعر ترتيب أمم ومجتمعات هذا العالم الذي تحوّل إلى قرية في العقود الأخيرة. وعن ذلك الانحطاط والتقهقر يصرّح الرفاعي: ( تشتد سطوة التراث عبر حضور فكر الأموات ومقولاتهم، بل يغدو الأموات هم مصدر الإلهام للكثير من المعاني في حياتنا، وتعلي مجتمعاتنا من مقاماتهم عندما تنصبهم حكاماً على الأحياء، وتعود إليهم في ما تواجهه من تحديات، وتستعير آراءهم في أكثر القضايا والمستجدات). وفي الموضوع نفسه يتوقف عند دور اللغة في تشكيل ملامح الأحداث والمعطيات بما تكتنزه من شحنات ورموز، إذ هي كما أشار هايدغر (اللغة مسكن الكينونة) أو كما قال نيتشه (كل كلمة هي عبارة عن حكم مسبق)، وبهذا يدعو الرفاعي إلى التوقف كثيراً عند اللغة ودورها المتعاظم في حياتنا الراهنة (إن تطهير اللغة من الكلمات والمصطلحات القدحية المشبعة بالتشهير بالآخر ضرورة يفرضها الواقع، الذي يضج بالاحتراب والصراع الديني والطائفي، وينبغي أن تتسع عملية تطهير اللغة من العنف لتشمل المقررات الدراسية في سائر مراحل التعليم، ويجري تأهيل لغوي للمربين والمعلمين والمدرسين، مضافاً إلى الصحفيين والإعلاميين، ويعمد إلى تثقيفهم وتنبيههم إلى خطورة تداول الكلمات والأساليب التعبيرية ذات الحمولة السلبية، وما يمكن أن ينجم عنها من تشويه لصورة الشركاء معنا في الإنسانية، فضلاً على شركائنا في المواطنة).

مثل هذه الملاحظات النقدية نجدها موزعة بشكل متكامل على فصول الكتاب لتلتقي حول الغاية الأساس، ألا وهي الوقوف إلى جانب عيال الله في مواجهة ذلك الاغتراب الكوني الذي يترصدهم في غير القليل من محطات حياتهم السريعة على تضاريس هذا الكوكب. وهناك دعوة صريحة وواضحة إلى شريحة الشباب خاصة للاحتفال بكل ما يتعلق بالفن والحياة والإبداع، وهذا يتطلب كما يؤكد: (إشاعة فهم عقلاني جريء للدين، يخترق الأدبيات الجنائزية في تراثنا التي تكثّف حضورها في الخطاب السلفي اليوم… لقد باتت الحاجة ملحة إلى دراسة وتحليل منابع اللاتسامح، وبواعث العنف والكراهية في مجتمعاتنا، والاعتراف بان الكثير منها يكمن في الفهم الخاطئ للدين). 

وهذه تدعونا إلى الانخراط ضمن برنامج واسع وشامل لتجفيف منابع ذلك الخطاب المتخم بكراهة الآخر، والذي لا يرى فيمن يحيطون به من مجتمعات وأمم لا تشاركه معتقداته وطقوسه سوى أعداء يجب إخضاعهم أو التخلص منهم، كما نشاهد اليوم من فصول همجية ووحشية ضد من سعت السماء لتكريمه والارتقاء بشأنه، بالضد من ناموس الطبيعة والحياة المفعم بالتعددية والتنوع والثراء المادي والمعنوي. وهنا يضع الرفاعي تساؤلاته أمام من تنطع للدفاع عن حقوق السماء، وفوضوا أنفسهم بمسؤوليات لإكراه عيال الله على اعتناق آرائهم بالقول: (إذا كان النبي وهو صاحب الرسالة، لم يفوض في إجبار الناس وإكراههم، فكيف يفوض غيره بذلك؟! وان كان ذلك ليس من وظائف النبي، فكيف يسوغ لمن يدعون أنهم من أتباعه سلب حرية الناس، ومصادرة حقهم في اختيار المعتقد؟).

وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن جولتنا هذه حول هذا الكتاب الهام للمفكر التنويري الدكتور عبد الجبار الرفاعي هي سريعة، ولم تتوقف عند الكثير من المحاور الهامة التي تضمنها هذا الكتاب المترع بالتجارب والقيم المناصرة للإنسان والمحبة والسلام. وهذا ما نجده مكثفاً في هذه السطور:

(إنقاذ النزعة الإنسانية يعني؛ إيجاد حالة من التوازن والانسجام بين متطلبات جسده من حيث هو كائن بشري، وإمكانية غرس وتنمية روح التصالح مع العالم، والتناغم مع إيقاع الكون، وتكريس حالة الانتماء للوجود، والتعاطف مع كافة الكائنات الحية والشفقة عليها، وتعزيز أخلاقية المحبة، وتدريب المشاعر والأحاسيس والعواطف على القيم النبيلة، والسعي لاكتشاف روافد ومنابع الهام الطاقة الحيوية الايجابية في هذا العالم، والتواصل العضوي معها. وهذا يعني استيحاء صفات الرحمة والمحبة والسلام).

تنويه: صورة غلاف الكتاب هي لضريح مولانا جلال الدين الرومي، إذ تضمن الكتاب فصلا تناول فيه الرفاعي تجربته الروحية في زيارة مولانا، وعنوانها: في حضرة مولانا: سياحة في عالم المعنى.

إقرأ أيضا