وداعا أيتها الوحدة

من أكثر المفاهيم التي يتم تداولها بين النخب والناس أيضا، هي الوحدة، المساواة، الحرية، العدالة، ولعل ظهور هذه المفاهيم كان ملازما لبداية النهضة في أوروبا مطلع القرن السادس عشر الميلادي، وظلت هذه المفاهيم ولا تزال مفاهيم هلامية رخوة، تتشكل بحسب الإيديولوجية التي تنطلق منها، وتمثل خلفيات المنادين بها، وهنا سوف نعرض لموضوعة الوحدة.

ربما ظهرت هذه المقولة بشدة في القرنين الثامن والتاسع عشر الميلادي، مع ظهور بوادر مقولة الدولة القومية، والتاريخ يذكر لنا العديد من القادة الذين تبنوا مقولة الوحدة وسعوا لتحقيقها، وربما الأبرز بينهم أوروبيا هو بسمارك، والعرب كعادتهم استعاروا هذه المقولة وأدخلوها ضمن إيديولوجيا القومية العربية، على أن كلا المقولتين، أي القومية والوحدة ليستا في قاموس المفردات العربية بالمعنى الذي نظّر له غربيا، وحاول العديد من القادة العرب أن يطبقوا هذه المقولة، ولعل أشهرهم،هو جمال عبد الناصر – مع الفرق بينه وبين بسمارك طبعا، فبسمارك كان الهدف من وحدته هو تقوية ألمانيا وجعلها الرائدة في كل شيء، بينما هدف عبد الناصر هو الهيمنة لأجل الهيمنة، فيبقى عبد الناصر عربيا يحب الإمارة ولو على حجارة- وبعد تراجع المد القومي في العالم ككل، وضمور مقولة الوحدة القومية، برزت مقولة الوحدة الإسلامية التي كانت ضعيفة أمام المد القومي القوي. لتأخذ منحى جديدا في الدعوة للوحدة بين المذاهب الإسلامية. في الواقع الوحدة التي يراد لها أن تسود الآن هي وحدة مثالية، ولا يمكن أن نجد لها في عالمنا المزدحم بالمشاكل والهموم مكان، فمقولة الوحدة لها تفسير معين وهو اندكاك وانصهار كل المذاهب في بوتقة الإسلام وبذلك نرفع شعار إسلام بلا مذاهب. وهذا كلام منطقي للغاية، بل هو غاية الغاية، ولكنه يتحقق في الدولة الإلهية العالمية، وليس بين كانتونات نسميها تنازلا دولا، فالوحدة التي يمكن أن نطبقها مع صعوبات لا يستهان بها، هو أن نقنع الأخر بواقع وجودنا على الأرض وبأننا نشكل مثله رقما صعبا، أي أن يحترم السني عقيدة الشيعي، وأن يعترف به كمكون أساسي ضمن منظومة الإسلام، فلا يمكن للشيعي أن يتحول مذهبيا والعكس صحيح، أما مقولة الانصهار فهي غير قابلة للتطبيق الآن وذلك، لأن المذاهب الإسلامية تقوم على أساس الاجتهاد الظني، أي قراءة النص المقدس من قبل الفقيه الجامع لشرائط الفقاهة، وبالتالي فان كل فقيه يرى أن طريقته في الاجتهاد هي الصائبة وأن باقي الطرق خاطئة، فكيف نستطيع ترك تراثا عمره خمسة عشر قرنا، يقوم على التخطئة وتكفير الآخرين، لننزل إلى مقولة الانصهار والاندكاك هذه؟ لا أحد يقبل بذلك حتى أولئك الدعاة لمقولة الوحدة الإسلامية، فلا أحد يقول أنا على خطأ أبدا، تلك سنة الناس وطينتهم، نعم من الممكن أن نفترض حلا يقوم على أساس الاحترام والاعتراف بالآخر، كشريك وأخ تحترم شعائره وطقوسه وحياته وعرضه وماله وأمنه.

وعلى ذكر الاعتراف بالآخر المثير للاستغراب، بل وللضحك أحيانا، ما يقوم به بعض الشيعة والسنة الآن، بل الحكومة أيضا من مؤتمرات وصلوات وندوات مشتركة لدعم الوحدة الإسلامية والوطنية، في بلد تم تقسيمه واقعا إلى ثلاثة كانتونات، شمالية ووسط غرب، ووسط وجنوب، العراق لم يقسم الآن، بل قسم يوم جاء حزب البعث إلى السلطة، فقرب مجموعات عرقية وطائفية معينة، واضطهد عرقيات وطوائف أخرى، البلد قسم يوم 17/7/1979م، اليوم المشؤوم الذي اعتلى به الزنيم صدام حسين كرسي الحكم في العراق، وتعمق هذا الانقسام بعد حرب الخليج الأولى1980- 1988م.

واستقر هذا التقسيم بعد حرب الخليج الثانية 1990-1991م، وما تبعها من أحداث مؤلمة في العراق، ليكرس هذا التقسيم واقعا بعد حرب عام 2003م، في مقال سابق قبل عام ونشرته جريدة العالم الغراء، وتحت عنوان انتبهوا أيها السادة المواطنون.أدرجت خارطة تقسيم العراق والمنطقة نقلا عن صحيفة (الواشنطن بوست) وقد قلت بالحرف الواحد، إن التقسيم قادم لا محالة وإلا فان الكيان الصهيوني سوف يزول، فكل هذه الحروب والغزوات والانقسامات هدفها حفظ أمن الكيان الصهيوني، فاليوم دعاة الوحدة الإسلامية لا يعنون هذا الأمر، ففي (ساحات العزة والكرامة) شعارات الانقسام واضحة، وفي مظاهرات الجنوب أيضا، وشعار (بعد ما ننطيها) هو السائد الآن، الشيعة لا يمكن أن يتنازلوا عن الحكم لأحد أي أحد، حتى لو كلفهم ذلك أرواحهم وما يمتلكون، والسنة يبحثون عن مجد زال ببندقية الجيش الأمريكي الغازي للعراق والمنطقة،والكورد لا يمكن أن يتنازلوا عن حلم الدولة، المطلوب الآن هو انسحاب الجيش الاتحادي من مناطق السنة في العراق، ليحل محله الجيش العراقي الحر، الوليد الجديد للدولة العراقية السنية، والكورد بدؤوا فعلا بالتحرك للاستيلاء على كركوك، المحافظة العراقية المختلطة والغنية بالنفط، فلا دولة كردية بدون موارد حقيقية، والشيعة في بغداد والوسط والجنوب يترقبون ما يحدث في العراق والمنطقة، وهم أيضا كغيرهم يريدون الحفاظ على مكتسباتهم البسيطة التي حققوها في العقد الماضي.

هذا الواقع هو ما نعيشه الآن، فأين الوحدة من كل هذا؟ إذا أردنا فعلا أن نحقق الوحدة الوطنية، فعلينا أن نقوم بالخطوات الآتية: علينا أولا أن نجري تعددا حقيقيا للسكان، وثانيا حل البرلمان الموجود حاليا والذهاب إلى انتخابات مبكرة، وهذا ما نشرته أيضا في مقال سابق في جريدة العالم قبل أكثر من عام ومع بداية الأزمة، رفع مظاهر الاعتصام في كل العراق، وترك موضوع الصلاة المشتركة والمؤتمرات التقريبية، لأنها أصبحت للاستهلاك الإعلامي فقط، ثالثا البدء بتطبيق اللامركزية الإدارية والاقتصادية في العراق عموما، وبدون انتظار، كخطوة أولى نحو الفدرالية، وكجزء من الحل البديل للتقسيم، رغم أن قبولها يشبه شرب السم في العسل، ولكن فدرلة العراق أفضل من تقسيمه، وبهذا نكون قد أنقذنا العراق من التقسيم الفعلي وترسيم الحدود بين محافظاته، هذا التقسيم إن وقع لا سامح الله، فهو لا يقع إلا بعد حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس، هذه الحرب سوف تكون ساحاتها، ديالى، كركوك، الموصل، صلاح الدين، الأنبار، بغداد، وأخيرا وللتذكير فقط ننقل قول الباري جل وعلا، إذ يقول في محكم كتابه العزيز:{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الأنفال 25.

 

*استاذ في الحوزة العلمية بالنجف

29/4/2013

 

إقرأ أيضا