“معلومات صادمة”.. “العالم الجديد” تفتح ملف الطب النفسي في العراق

في إحدى أزقة منطقة الكرادة وسط بغداد، وفي بناية شبه مهجورة ومتهالكة، وضعت يافطة لـ”طبيب…

في إحدى أزقة منطقة الكرادة وسط بغداد، وفي بناية شبه مهجورة ومتهالكة، وضعت يافطة لـ”طبيب نفسي”، دل “شحوبها” البالغ على واقع الطب النفسي في البلاد التي ضربتها العديد من الحروب والنكبات الاقتصادية التي تركت آثارا نفسية جسيمة على المجتمع، خلافا للاختصاصات الأخرى التي تفتح عياداتها في أبهى حلل. حاولت “العالم الجديد” فتح ملف هذا المجال الطبي في العراق بشكل موسع، لتكشف عن خفايا وأرقام صادمة، تتعلق بأعداد الأطباء النفسيين ومنع “المعالجين النفسيين”، من العمل في البلاد، وتأثير الوصمة الاجتماعية على واقع المهنة، وكيف عززت جائحة كورونا مكانتها بالتطبيب عن بعد، في ظل تنامي أعداد المشاهير من المراجعين. 

كانت أولى محطات الصحيفة مع الطبيب النفسي وسام الذنون، الذي يقول في حديثه لـ”العالم الجديد”، إن “الطب النفسي يتناسب طرديا مع ثقافة المجتمع، والأخيرة بدأت تتردى بشكل كبير بسبب العديد من العوامل أبرزها تفشي الجهل والفقر”.

ويضيف الذنون، أن “كثيرا من المرضى النفسيين يلجأون الى الأمور الغيبية، ويعتقدون أنهم تلبسوا بالجن أو تعرضوا للسحر، لذلك يتجهون للشيوخ ويتجاهلون مراجعة الطبيب، لتتفاقم بعد ذلك حالاتهم النفسية”، مبينا أن “انعدام الثقافة ليس بعدم مراجعة الطبيب النفسي فقط، بل بآلية العلاج، فالعديد منهم عندما لا يلمسون تحسنا سريعا يهملون العلاج ولا يعودون الى الطبيب مرة أخرى، وهم لا يعرف بأن العلاج يأخذ وقتا ليبدأ مفعوله، بالإضافة الى أن بعض الأدوية تسبب أعراضا جانبية، قد تدفع المريض لتركها دون العودة للطبيب من أجل استبدال العلاج”.

ويعرج على مسألة خلط الاختصاصات، بالقول إن “العديد من المرضى يتجهون لأخصائي طب الأعصاب، بدلا من الطبيب النفسي، وهذا نتيجة عدم إدراكهم االفرق بين الاختصاصين، وعندما يطلب أخصائي الأعصاب من المريض مراجعة طبيب نفسي يعترض عليه بأنه ليس مجنونا”، مستدركا أن “رفض المرضى مراجعة طبيب نفسي، دفع أخصائيي الأعصاب الى أخذ دوره (النفسي)، ومنحهم علاجات تتعلق بالحالات النفسية، حتى لا يفقدوا المريض، وهذا ما أورثهم بعض الخبرة في معالجة هذا النوع من الحالات، رغم أنه لا يغني عن مراجعة الطبيب النفسي”.

وحول طبيعة عيادات الطب النفسي ومواقعها، يوضح الذنون، أن “المريض لن يذهب لعيادة طبيب نفسي في مجمع طبي أو في موقع بارز، فأغلبهم يفضلون العيادات المفردة أو الأماكن البعيدة عن الأنظار، وأنا شخصيا فتحت عيادة في موقع بعيد نسبيا عن أنظار المارة، لكي أتمكن من استقبال المراجعين الذين يتجنبون مراجعتي في عيادة داخل مجمع طبي، نظرا للوصمة الاجتماعية المعروفة التي تلاحق كل من يراجع أخصائيا نفسيا”.

وبشأن أعداد الأطباء النفسيين في عموم البلاد، يلفت الذنون الى أن “أعدادهم في العراق حاليا تبلغ 168 طبيبا فقط، بعد أن كانوا 180 طبيبا، توفي 12 طبيبا منهم خلال العامين الماضيين، وبالمقابل لا يوجد خريجون جدد، حتى عندما طلبنا بدلاء لأغراض النقل، تم إبلاغنا بعدم وجود أي طبيب نفسي”، عازيا الأمر الى “إحجام طلبة الطب عن دخول هذا الاختصاص”.

يشار إلى أن منظمة الصحة العالمية، أكدت أن هناك ستة ملايين عراقي يعانون من أمراض نفسية متباينة الحدة، أغلبها ناتجة عن الإجهاد النفسي لما بعد الصدمة، وذلك بعد عامين من “الحرب الطائفية” التي شهدها العراق خلال أعوام 2006 و2007، فيما أشارت التقديرات عام 2013 الى وجود نحو 200 طبيب نفسي فقط في العراق، في وقت كان سكان العراق نحو 32 مليون نسمة، فيما يبلغ تعدادهم حاليا 41 مليون نسمة، وسط تراجع أعداد الاطباء النفسيين.

ووفقا للمنظمة، فإن الحد الأدنى هو وجود طبيب واحد لكل خمسة آلاف نسمة، وبحسب تقاريرها أيضا فإن 300 ألف مريض من بين عموم المصابين، يعانون الفُصام “شيزوفرينيا”، وبالمقابل فإن معهد “غالوب” المتخصّص بدراسات الرأي العام، أعد لائحة بالشعوب الأكثر إحباطاً، عام 2012، واحتل العراق موقع الصدارة، متقدّماً على 148 بلداً.

ويستطرد الذنون “من أجل تشجيع طلبة الطب على خوض مجال الطب النفسي كخيار طبي، تم مؤخرا إلغاء الشروط المرهقة لطلبة حقل الطب في العادة، من قبيل خضوع الخريج للخدمة في القرى والأرياف، بالإضافة الى الإقامة الدورية فيها بعد ذلك، وهو أمر خلق حافزا للطلبة وخصوصا الفتيات بالتوجه لدراسته”.

أما المعالج النفسي، يستطرد الطبيب المختص، فهو “خريج دراسة علم النفس في كليات الآداب، وعلم النفس السريري في كليتين أخريين في العراق، ويقتصر دوره على القيام بالجلسات التحليلية والسلوكية، ويتابع حالة المريض ويستمر معه، أي أنه مكمل لدور الطبيب المختص”، مستدركا، أن “المعالج النفسي ممنوع من العمل في العراق لغاية الآن بسبب حداثته، فنقابتا الأطباء والكوادر الطبية تريان أنه لا يحمل صفة ترخيص عمل كمعالج نفسي، رغم أنه من أهم العوامل المكملة للعلاج”.

الذنون، وبالإضافة لعمله في عيادته، فقد أطلق صفحة على موقع الفيسبوك للعلاج النفسي عن بعد (أون لاين)، وحول هذه التجربة، يشير الى أن “الصفحة تم إطلاقها قبل خمس سنوات، لكن أزمة كورونا ساهمت بتفعيلها، وكشفت عن أن نسبة العلاج عن بعد، زادت بسبب ضعف العلاج المباشر، نظرا للخصوصية والسرية التي توفرها الصفحة، فهي لا تحتاج الى الحضور أو معرفة أي أحد بأن المريض يراجع طبيبا نفسيا”.

ويلفت إلى أن “عدد المراجعين شهريا عبر الصفحة بين 400– 500 مريض، والمفاجأة أن نسبة كبيرة من المشاهير في العراق، وأسماء كبيرة راجعتنا على الصفحة، نظرا للخصوصية التي توفرها، فبعض ممن تواصلوا معنا هم أسماء لامعة في مواقع التواصل الاجتماعي”.

وبشأن أجور المراجعين عن بعد، وآلية تقاضيها، يبين الطبيب النفسي وسام ذنون “نظرا لعدم وجود نظام دفع إلكتروني متطور في العراق، فإنها تتم عبر تحويل كارتات تعبئة رصيد الهاتف، ونحن بدورنا نبيع هذه الكارتات لأشخاص متعاونين معنا”.

يشار إلى أن العراق يمتلك ثلاث مستشفيات نفسية فقط، هي مستشفى الرشاد “الشماعية” و”ابن رشد” ببغداد، و(سوز) في إقليم كردستان بمحافظ السليمانية.

وبحسب السجلات الرسمية لمستشفى ابن رشد، فإنه استقبل حوالي 100 مريض يوميا في العام 2010 ، فيما سجلت مستشفى الرشاد حوالي 30 مراجعة يوميا.

الى ذلك، ينوه الباحث النفسي أحمد الذهبي خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “الطب النفسي في العراق يلاقي إهمالا ليس في العراق فقط، وإنما في أغلب البلدان العربية، وذلك بسبب ثقافة المجتمع البائسة وخاصة المجتمع العراقي”.

ويستطرد الذهبي “كل من لديه اضطراب نفسي أو وسواس قهري أو اكتئاب أو غيرها من الأمراض النفسية، وأراد أن يذهب إلى الطبيب النفسي أو الإرشاد النفسي، يوصف بأنه مجنون، حتى أننا نلاحظ أن هذه الوصمة التي يوصف بها الطبيب أو المعالج النفسي، نراها حتى في البرامج التلفزيونية والدراما بأنه يطل علينا الطبيب النفسي وكأنه في حالة غير طبيعية وكأنه مجنون”، متابعا “لذلك نقول إن علم النفس هو علم هندسة السلوك، فلا يفهم الناس أن الإمام علي عليه السلام، يعد الرائد في مجال علم النفس، عندما قال (صُنِ النَفسَ وَاِحمِلها عَلى ما يزيِنُه.. تَعِش سالِماً وَالقَولُ فيكَ جَميلُ.. وَلا تُرِينَّ الناسَ إِلّا تَجَمُّلاً.. نَبا بِكَ دَهرٌ أو جَفاكَ خَليلُ)”.

ويردف أن “الطب النفسي متأخر جدا في العراق، والمجتمع بحاجة إلى تثقيف وتسليط الضوء من قبل الإعلام ومن قبل كل إنسان مختص وأكاديمي بأن يكون له دور فعال، وهناك الكثير من الناس، ممن لديهم اعتلال واضطراب نفسي يتصلون علينا في السر ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي، أي يستغلون أية نافذة سرية للاستشارة النفسية ومن أجل أن يشكوا همومهم واضطراباتهم، فالمجتمع متعطش وبحاجة كبيرة جدا أن يجلس كل شخص مع مختص نفسي”.

ويؤكد أن “الطب النفسي، هو من يطبب النفوس، وأن من يحتاج الإرشاد والتوجيه النفسي هو كل إنسان في المجتمع، طبيبا كان أو مهندسا أو عاطلا، لذلك هي هندسة سلوك وبناء للنفوس”.

يشار إلى أن مجلس النواب، أقر قانون الصحة النفسية رقم 1 لسنة 2005، ونص على “تأمين رعاية مناسبة للمصابين بالاضطرابات النفسية والتخفيف من معاناتهم ومعالجتهم في وحدات علاجية متخصصة تتوافر فيها الشروط الملائمة بما يضمن تنظيم مكوثهم في الوحدات العلاجية المغلقة تحت الاشراف الطبي والقضائي”.

عيادة خاصة لطبيب نفسي في إحدى أحياء بغداد (خاصة بالعالم الجديد)

من جانبها، تشير عضو الفريق الإعلامي لوزارة الصحة ربى فلاح خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “هناك مراكز للتأهيل النفسي وأطباء نفسيين يعملون بهذا الموضوع، ويقومون بمتابعة الحالات التي تمر عليهم من ناحية العلاج النفسي والتشخيص، ولا يوجد إهمال بالعلاج النفسي، ولكن من الممكن أن يكون المريض لا يستمر في المراجعة بحكم أن مجتمعنا لا يتقبل الفرد الذي يقوم بزيارة الطبيب النفسي ويتعالج عنده”.

وتوضح، أن “عدم الالتزام بمراجعة الطبيب النفسي هو خطأ كبير، فكلما كان التشخيص مبكرا، كلما كانت مدة الشفاء أقصر، فمثلا عند إخبار مريض بأنه يحتاج إلى تأهيل نفسي أو معالجة من قبل الطبيب، فمن الممكن أن لا يتقبل هذه المراجعة ويعتبر نفسه مجنونا ليراجع الطبيب نفسي”.

وتتابع فلاح، أن “الكثير من الأمراض يمكن أن تحل عن طريق الطبيب النفسي، كما أن نصف العلاج يعتمد على الجانب النفسي، فكلما كانت النفسية جيدة سوف يكون العلاج أسهل وأسرع، حتى مرضى السرطان عندما تكون نفسيتهم جيدة ومتقبلين للمرض سوف يكون العلاج أفضل وأسرع، ودائما ما نعطي الصورة الإيجابية للشخص المريض”.

وتتابع “ربما لم يأخذ الطب النفسي حيزا كبيرا في العراق، لأن المجتمع وحتى الطبيب لا يختار اختصاص هذا الحقل، وعادة ما يفضل الالتحاق باختصاصات أخرى، وحتى أسرته تشجعه على ذلك مثل الذهاب إلى الجراحة والباطنية وغيرها من التخصصات، والمجتمع بشكل عام لا يتقبل فكرة أن يتعالج هذا المريض نفسيا عند طبيب نفسي، فمن الممكن أن يعتبر مختل عقليا بينما نجد الطب النفسي في الدول الأخرى من اهم المجالات الطبية”.

يذكر أن تقارير لوزارة الصحة أشارت في العام 2010 الى أن حوالي الثلث من العراقيين يعانون من اضطرابات نفسية، وتؤكد أن العام 2009 شهد مراجعة 100 ألف مريض للمستشفيات والمراكز الخاصة.

إقرأ أيضا