حمادي العلوجي.. أبو عقلين!

يتداول البغداديون مثلا يطلقونه على الرجل الذي يورّط نفسه في مأزق فيقولون عنه (أبو عقلين). ولقد تحريت عن أصل هذا المثل، فوجدته يعود إلى مائتي سنة، وتدخل واقعته بصنف (عجيب أمور غريب قضية).

ففي العام 1812 هرب سعيد بك من بغداد إلى سوق الشيوخ لاجئا عند شيخ المنتفق حمود الثامر، فأرسل الوالي عبد الله باشا إلى الشيخ حمود يطلب منه تسليم سعيد بك، فأجابه الشيخ (الموت دون تسليم جاري). واستطاع الوالي أن يوقع الهزيمة بالعشائر ولم يصمد مع سعيد بك سوى ثلاثين فارسا. وفجأة انقلب معظم قواد جيش الوالي وانحازوا لسعيد بك بحجة أنهم تذكروا نعمة أبيه سليمان الكبير عليهم، وأنهم يريدون الوفاء له بالانتصار لابنه. وجيء بالوالي ورمى برأسه تحت أقدام سعيد بك.

كان سعيد (صار الآن باشا) في الثامنة والعشرين من عمره حين ولّي الحكم. وكان مترفا، مدللا، لا يعرف من دنياه سوى الملذات، وصار الأمر بيد حمود شيخ المنتفق وسعيد مثل طفل بيديه، غير أنه استطاع بعد أربع سنوات من تأسيس حكم قوي بإسناده منصب (رئيس الوزراء) إلى رجل محنّك اسمه داود أغا. وصار الناس يهابونه لدرجة أنهم إذا رأى أحدهم موكبه قادما نهض وأحنى جسمه إلى الأمام أو رفع يده إلى شفتيه ثم وضعها على جبينه، فقبلها بمنتهى الاحترام، على حد وصف بكنغهام في كتابه (رحلتي إلى العراق).

غير أن هذا الوالي (الأبّهة) وقع في عشق غلام مليح اسمه (حمادي العلوجي)، لدرجة انه ما كان يطيب له سوى قضاء أوقاته بالقرب منه، فسيطر عليه هذا الغلام سيطرة شبه تامة!

و(حمادي العلوجي) هذا هو الذي اشتهر بلقب (أبو عقلين)، والمظنون أن والده جاء به من قرية في الشام اسمها (بعقلين) فحرّفها البغداديون إلى (أبو عقلين) ليسخروا من الذي يورّط نفسه ويدعي أنه ذكي.

غير أن (حمادي العلوجي) كان ذكيا وقوي الشخصية ومليحا (أوقع من وسيم!). وأخذت سيطرته على الوالي سعيد تزداد يوما بعد يوم، حتى وصل أخيرا لمنصب رئيس الوزراء!، وصار يأمر وينهي كما يشاء.

ويروي سلمان فائق في كتابه (تاريخ بغداد) بشأن العلاقة العاطفية بين الوالي وحمادي، فيقول: (أما محبته لحمادي أغا التي بلغت درجة العشق والهيام وأصبحت حديث الخاص والعام بالإضافة إلى ما كان يتمتع به المومى إليه من حسن وجمال، فان كل ذلك قد حمل الناس على اتهامه بالانحراف الجنسي، ولا دليل ينفي عنه تلك التهمة). ويمضي في القول إلى أن تلك العلاقة أدت إلى تدهور الأحوال في العراق، حيث انشغل الوالي بعشقه وأهمل شؤون الحكم فانتشرت الفوضى والاضطرابات.

غير أن داود أغا الذي كان عيّنه رئيسا للوزراء وعزله تنفيذا لطلب أمه، استطاع أن يستقطب المعارضين ويحاصر بغداد. وحين أدرك سعيد باشا خطورة الموقف آثر أن يرضخ للأمر ويترك بغداد، إلا أن عشيقه حمادي أغا ثناه عن عزمه، وحثه على الصمود، وانتهى الأمر بدخول داود أغا إلى بغداد فاستقبله الأهالي استقبالا رائعا، وجرى البحث عن سعيد باشا فوجدوه بحضن أمه!، فضرب عنقه رئيس الانكشارية بالبلطة، فتدحرج الرأس أمام أمه، وبقي الجسد بحضنها.

أما المعشوق، المليح، الذكي، حمادي أغا (أبو عقلين) فقد ألقي القبض عليه، ثم قتل بعد تعذيب طويل! وبشع!

وتحار في أمر حكّام العراق، فمنهم من يقتله فسقه، ومنهم من يقتله ظلمه، ومنهم من يقتله خصمه، حتى لو احتمى بأمه!، ومنهم من لا نتمنى أن يقتله فساده! وهذا وارد لأن كل تلك الحالات، سبقتها فوضى واضطرابات وإهمال لأمور الناس!

اللهمّ أبعدنا عن السياسة، فكثير من فيها إما ناكح أو منكوح!

 

* أكاديمي وخبير نفسي

إقرأ أيضا