اللهجة (المصلاوية) بين بغداد والقاهرة

لطالما أردت إشباع فضولي بمعرفة المزيد عن اللهجة (المصلاوية)، وها أنا ألقمه أخيرا بلقاء دسم مع أحد المتبحرين في مفرداتها وأمثالها وتاريخها، انه الخطاط الشهير يوسف ذنون.

من يعيش في الموصل يعرف أن لهجة أهل المدينة الأقحاح تتفرع إلى لكنات عديدة، حسب الموقع من السور القديم للمدينة – داخل و خارج – إلى جانب لكنة خاصة بالمسيحيين. ومن خلال اللقاء هذا تأكدت أن جذورها ليست يهودية كما يدعي بعضهم، إنما عربية خالصة. وهنا يستشهد الخطاط برأي عالم اللغة والشاعر العراقي الكبير مصطفى جمال الدين (توفي 1995) في أن (المصلاوية) اقرب اللهجات العراقية إلى اللغة العربية الفصيحة.

هذه اللهجة صعبة الفهم والتعلم على الآخرين، وهي اقرب إلى لسان بعض المدن السورية منها إلى لهجة وسط وجنوب العراق، ومع هذا نجدها تحافظ على وجودها في ظل التغييرات الكثيرة التي تطرأ بين الفينة والفينة بفعل الهجرة من الريف إلى المدينة وموجات النزوح بسبب الظروف الأمنية منذ عام 2003. الموصليون يعتزون بلهجتهم كثيرا، ويعدونها العروة الوثقى لصون هويتهم المدنية المهددة بالخطر نتيجة الأوضاع الاستثنائية التي نعيش.

علمت توا أن (المصلاوية) تمتد جذورها الى الحقبة العباسية، والأهم أنها كانت في يوم ما لهجة أهل العراق! لكن الموصليون وحدهم من حافظ عليها، مع التسليم بالتغييرات التي تحدث عليها مع مرور الزمن وتبدل أساليب الحياة بطبيعة الحال.

اذن، البغداديون كانوا يتكلمون بـ(المصلاوي) أو لهجة قريبة منها. أما كيف آلت لجهتهم إلى ما هي عليه الآن، باختصار شديد التعليل عند يوسف ذنون:

عام  1829 حل وباء الطاعون على بغداد، هلك من أهلها من هلك وهرب من هرب، ولم يبق فيها سوى عشرات العوائل، وما إن زال خطر الوباء حتى نزح إليها أهل الريف القريبون منها، وإذ صار القرويون أغلبية صارت لهجتهم طاغية فيها، بالتالي ساهموا بلسانهم في الجزء الأكبر من اللهجة البغدادية الجديدة.

أما لهجة البصريين فهي الأخرى قد تبدلت، بتأثير بلاد فارس والبلدان الشرقية، الهند بخاصة، بحكم القرب الجغرافي والتواصل المستمر مع هذه الشعوب.

وما أدهشني أن تكون (المصلاوية) قد أثرت في اللهجة المصرية في زمن ما! نعود إلى يوسف ذنون ليقص علينا كيف حصل الأمر؟

في عام 660 هـ احتل المغول مدينة الموصل، وكعادتهم بدؤوا بأسر العلماء والحرفيين للاستفادة منهم في خدمة إمبراطوريتهم المترامية الأطراف، وكان في الموصل تينك الأيام رجل يدعى ابن دانيال الموصلي، وهو شاعر وكحال (طبيب عيون)، فهرب هذا إلى ارض الكنانة، لكنه وجد أن مهنة الكحالة منتشرة هناك على نطاق واسع، فضاقت عليه سبل العيش حتى أشعر يشكو ضيق ذات اليد:

يا سائلي عن حرفتي في الورى – وا ضيعتي فيهم وإفلاسي

ما حـــال من درهــــم إنفاقـــه – يأخــذه مـن أعيـــن النـــاس

ومن يومها اتجه ابن دانيال الى تأليف مسرحيات خيال الظل التي اشتهرت في مصر يومذاك، فنجح نجاحا باهرا حتى ذاع صيته في البلاد إلى درجة أن خصصت له الدولة راتبا شهريا.

ولان هذه المسرحيات كانت تكتب بلهجة عامية بسيطة، وإذ ان ابن دانيال كان موصليا، لقح مسرحياته بكثير من مفردات اللهجة (المصلاوية)، لكن تلك المفردات تغيرت لاختلاف البيئة والظروف.

ويعزز صاحبنا الخطاط كلامه أعلاه، بأنه لما أراد بعض المختصين بالتراث المصري شرح كتاب (هز القحوف في شرح قصيدة أبو شادوف) الذي ألفه باللهجة المصرية عالم الدين يوسف عبد الجواد الشربيني في النصف الثاني من القرن 13 للهجرة، استعصت عليهم مفردات كثيرة، وعندما قرأتها -الكلام للخطاط يوسف ذنون- عرفت معانيها وساعدتهم في اكتشاف ذلك، ولو سألوا عنها أي طفل موصلي لعرفها، لان أصلها من هنا من مدينة الموصل.

انتهى المقال، \”ولو البقال قغيب كان اشتغيتو حقه زبيب\”، وسلامتكم.

إقرأ أيضا