\”إنها بغداد\” يا زفرة سوﮒ العورا

مع إقراره بالفارق الحضاري بين أمريكا والعراق، إلا أن الصديق الشاعر فالح حسون الدراجي كتب قبل ثلاثة أشهر يقول إن \”زُفرة سوگ مريدي عندي تسوه ألف أمريكا\”، وهذا بالتحديد على ما أعتقد ما يدفع ببعض (أهل بغداد) إلى أن يحولوها إلى ما يشبه سوﮒ مريدي أو سوﮒ العورا، لا إلى شيء آخر.

هذا الشعور الدراجي الذي أعرف رمزيته، هو ما حوّل حياً بغداديا راقيا مثل الكرادة إلى ما يشبه سوﮒ العورا، حيث البسطات والجوادر والتجاوز على الرصيف، ومحلات المخضر التي تتجاوز دائما على وجه المدينة أينما حلت، وصوندات الماء، وأقفاص البلاستيك والكرتون وهياكل الحديد، ثم (زُفرة السمك) وأحواضه وطبيعة البضائع الصينية التافهة، وطريقة العرض التي لا تقل سوءاً عن زفرة السمك.

هذا الشعور الذي تطرق إليه صديقي الشاعر الدراجي يعيشه الملايين اليوم في كل العراق، ولنسمه سياسة سوﮒ العورا، ففي حي البـﭽاري في مدينة العشار في البصرة حيث قضيت شطرا من طفولتي الجميلة، تحول مدخل سوﮒ المغايز من جهة ساحة أم البروم (التي ذكرها السياب)، إلى سوﮒ العورا، مسقفات من الحديد والكرتون واطئة السقف والتكلفة والأخلاق، وممرات ضيقة مفروشة بكل المخلفات الكرتونية والنايلونية والبلاستيكية، وبضائع بمستوى محدد من الرداءة توازي رداءة السوق، والذوق أيضا. هذا الشارع الذي كان يوما يعج بحركة المتسوقين العراقيين والأجانب، بالأوربيين بشعورهم الشقراء وقبعاتهم الشمسية، وبألوان أثواب النسوة الهنديات وشالاتهن الملفوفة على صدورهن وبعض ظهورهن وبنقطة حمراء على الجبين، وهن يرافقن أزواجهن بشعرهم المصفف اللامع، ولحاهم المظفورة بشكل يلفت انتباه طفل مثلي يرى أن مدينته هي العالم.

قال السياب يوما إن \”أم البروم\” مقبرة صارت مدينة، ولكنه مات قبل أن يرى أن المدينة صارت مقبرة، وأن سوﮒ الهرج وسوﮒ الجمعة تمددا على حساب المدينة، ليصبح في العراق (كل يوم جمعة، وكل أرض سوﮒ جمعة). تمدد سوﮒ العورا ليشمل كل العراق، هناك سوﮒ عورا في كل مناطق العراق، وسوﮒ عورا في كل اتجاهات الحياة في العراق، هناك ملايين من العراقيين لم تعد المدينة ولا المدنيّة تعني لهم شيئا، إنهم في كل مكان، في الشارع، في البرلمان، في الوزارات، بل إن بيدهم مقدرات مدنيّة العراق كله.

أرجوكم لا تقولوا إن شوارعنا البائسة خربت بفعل تسونامي، ولا بفعل غارات الوهابية، ولا بسبب انخفاض أسعار النفط في السوق العالمي! إن خراب مدننا وخراب شوارعنا ناجم عن خراب ثقافتنا وذوقنا المدني، وتفضيلنا سوﮒ العورا على ألف أمريكا.

سوﮒ العورا، بعشوائيته، وسقوفه الواطئة وممراته الضيقة وبضاعته الفقيرة، وبنوع الأصوات التي تتعالى فيه، بحركته وسكناته صار نموذجا يحتذى في كل العراق، كم نحن مغرمون إذاً بسوﮒ العورا.

وإن تعدوا أمثلة سوﮒ العورا في مناطقكم لا تحصوها. ولا تكاد منطقة بمنأى من أن تتحول ببضعة باعة جوالين إلى سوﮒ عورا. إنه في كل مكان .. ليس ثمة مكان مستثنى من هذا الهجوم … كما أن ضرره البالغ لا يقاس بما تسببه المفخخات.

إنها بغداد؟ ماذا علينا أن نفعل لنعيد بغداد إلى الوراء لكي تتحضر؟ ويكفي تخلفا أنك ترجع القهقرى لتصنع مدينتك! علينا أن نبعد أولئك المولعين بنماذج سوﮒ العورا من مراكز (خدمة) بلادنا، من وزارة إلى مديرية، ومن إذاعة إلى تلفزيون، ومن لجان البرلمان، إلى أقسام العقود الحكومية… لأن ذوقهم بكل صراحة لا يدعو للتحضر ولا للمدنية. يكفي خراباً وعشقا للخراب ولنماذج وزُفرة سوﮒ العورا.

نعم أنا أحتاج كثيرا لذلك السوﮒ، فسعر رطب التبرزل فيه أقل من نصفه في الكرادة،… ولي في قطاعاته القريبة 71، و72 أحبة وأصدقاء لا استمرئ طعم سفرتي إن لم أزرهم وأستأنس معهم بالشعر، وبكربلاء، وبانتقاد الساسة العراقيين،.. لكنني لا أريد للشعر ولكربلاء ولا لبؤس إدارة الدولة أن يأخذوا مني ما تبقى من حياتي، ومن مدنيتي.

إقرأ أيضا