ذَب براءة

خلال الأيام الأخيرة من عمر الجبهة الوطنية التقدمية بين حزب البعث والحزب الشيوعي في العراق التي انهارت في اوائل عام 1979، قامت مديريات الامن بفتح ابواب معتقلاتها وشحذت همم اعداد كبيرة من الجلادين ليفعلوا ما يحلوا لهم بالشيوعيين وانتزاع الإعترافات منهم. من قرر الصمود من الشيوعيين امام قسوة التعذيب المتواصل من اجل الدفاع عن مبادئه فسيموت أثناء التعذيب، ومن نجا فسيتم عرضه على محكمة الثورة، وهناك سيلاقي حكمه الجاهز بالاعدام، ومن لا يستطيع الصمود فانه مطالب بالتوقيع على ورقة جاهزة يعلن فيها براءته من الحزب الشيوعي، وما ان يخرج من معتقل مديرية امن مدينته، حتى يقال عنه: ذَب براءة ورجع للصف الوطني. وذَب البراءة هذا لم يكن وليد تلك المرحلة فقط، بل حدث في مراحل مختلفة من صراع الحزب الشيوعي العراقي مع الأنظمة المختلفة التي تعاقبت على حكم العراق.

بعد لقاء متلفز مع المعنيين بالشأن الإقتصادي والسياسي كان الهدف منه توصيل رسالة محددة الى العراقيين، قام المالكي بـ\” ذَب براءة\” من كل الإنهيار الأمني والخدمي والسياسي الذي يحدث في العراق، وانه الراهب الأعزل الذي يقف على قمة الصدق والوداعة ويثق بالنوايا الطيبة، ولا يقدم الدعم الى المليشيات (مجالس الاسناد التابعة له خارج تصنيف المليشيات)، وان جوقة نوابه في مجال الطاقة والخدمات والاقتصاد…الخ والعدد الهائل من الوزراء في حكومته يكذبون عليه ويخدعونه ويصورون له الوضع في العراق بشكل زائف وبعيد عن واقع الحال.

سعى المالكي وعبر اعلانه بعدم صحة الإعلان المتواصل عن الانتهاء من ازمة الكهرباء وتصديرها الى الخارج (في احد خطبه امام مجموعة من الشركات الكورية، قال: ان العراق سيوفر الطاقة الكهربائية على مدار الساعة خلال العام الحالي 2013) للتملص من التدهور المريع في مجال الخدمات، وخصوصا الكهرباء عبر تحميله مسؤولية ما يحدث على نوابه الذين يقدمون له أرقام غير دقيقة عن واقع الخدمات وعلى الوزراء المعنيين الذين لا يطيعونه ويعودون الى أحزابهم قبل الموافقة على اي قرار أو اجراء ما، مثلما سعى للتملص من الإنهيار الأمني، طبعا تناسى انه وزير الداخلية وكالة. وان الأوضاع الامنية تشهد تدهورا وخروقات متواصلة تتمثل في ارتفاع وتيرة الاعمال الإرهابية وزيادة عدد الضحايا من العراقيين، وان ما تقوم به هذه الوزارة واداراتها واجهزتها \”تحت ستار فرض الأمن\” قد أصبح كابوسا حقيقيا يجثم على انفاس العراقيين. ولعل الهروب الكبير لسجناء تظيم القاعدة من سجون ابو غريب والتاجي هو الحدث الأبرز الذي يثبت فشل خطط وتدابير الجهات المعنية بالأمن وعلى رأسها وزارة الداخلية.

لم ينس المالكي وهو في لجة إثبات البراءة ان يدافع عن ابرز رموز الفساد ونهب المال العام في العراق \”فلاح السوداني وزير التجارة السابق، وعادل محسن المفتش العام في وزارة الصحة\” على الرغم من ان كل الوقائع في فضائحهم تؤكد ارتباطهم بالمالكي وحزبه وتدخله من اجل الإفراج عنهم.

عمليا، ان نوري المالكي هو رئيس مجلس الوزراء في العراق، وانه وبحكم هذا المنصب يتمتع بصلاحيات واسعة النطاق وانه يتحمل المسؤولية الكاملة عن أي خلل خدمي واداري او خرق أمني، وان وصوله الى هذا الموقع جاء عبر نظام المحاصصة الطائفية، وحيث كان للمالكي وحزبه دور كبير في ترسيخه وتشريعه في اثناء مراحل كتابة الدستور. وان ما يحدث في العراق هو تجسيد عملي صريح لهذا النظام الذي أُوجد من اجل مصالح الطوائف والقوميات وجعلها في مرتبة اعلى من الدولة.

لا تحتاج القضية الى \”ذب براءة\” من قبل المالكي ان كان حريصا كما يدعي، بل تحتاج الى جرأة حقيقية في مواجهة النفس والواقع المزري، وكشف الملفات التي طالما تحدث عنها ولوح بها في صراعاته مع الخصوم السياسيين والشركاء في الحكم.

ان الصدق والجرأة والصراحة تتطلب من المالكي ان \”يذب إستقاله\” من الحكم ويريح نفسه من هذه المعاناة والخداع والكذب الذي يحيط به وان يتفرغ لممارسة اعمال اخرى.

* كاتب عراقي

إقرأ أيضا