أمريكا لخصومها في العراق: وصلت رسائلكم

ما الذي استجد على الساحة العراقية أو على صعيد العلاقة المهزوزة بين بغداد وواشنطن، حتى غيرت الولايات المتحدة موقفها “الصارم” من تواجدها العسكري المثير للجدل في بلاد الرافدين؟ هل هي الخشية من التصعيد غير محمود العواقب والتداعيات، أم انه تكتيك مرحلي مخادع طالما لجأ إليه “راعي البقر” الأمريكي.

فقبل أشهر معدودة كانت إدارة دونالد ترامب، تتحدث بلغة متعالية مغلفة بالاشتراطات عن عدم مراجعة هذا الأمر إطلاقا، لتتراجع مؤخرا عن ذلك وتنسحب من قواعد ومعسكرات كانت تتمركز فيها قواتها منذ سنوات في بغداد ومدن أخرى تقع إلى الشمال والغرب من العراق.

حتى أن ترامب المأزوم داخليا بسبب إخفاقه في مواجهة جائحة كورونا، اشترط على بغداد دفع “خسائر” بلاده منذ غزوها عام 2003، بما فيها تكاليف بنائها لقواعد ومعسكرات في مناطق مختلفة من البلاد، مقابل الانسحاب المطلوب.

وعلى ذات المنوال، كان مايك بومبيو وزير خارجيته المتناغم مع سياساته والملقب في واشنطن بـ”كلب الحراسة الضخم” لا يطيق الإجابة على أسئلة تخص موعد انسحاب “المارينز” من بلاد الرافدين، مروجا لأنباء تندرج في خانة الابتزاز عن توسيع مهمة حلف “الناتو” الذي تقوده أمريكا في هذا البلد الشرق- أوسطي المضطرب.

الموقف الأمريكي المستجد، جاء مطلع شهر نيسان ابريل الجاري عبر مذكرة رسمية نقلها سفير واشنطن ببغداد ماثيو تولر لرئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي الذي قال عقب تسلمه المذكرة: “الآن نستطيع أن نقول إننا نقترب (…) من إخراج القوات الأمريكية”.

تصريح عبد المهدي الذي لم ترد عليه دوائر واشنطن، ولا أي من مسؤوليها، اعتبرته بعض فصائل المقاومة إلى جانب ما سبق من “انسحاب جزئي” نصرا لها، حتى أنها أعلنت عن إيقاف عملياتها العسكرية مؤقتا لإفساح المجال أمام مغادرة القوات الأجنبية كليا ونهائيا من البلاد.

وفي نهاية الشهر آذار مارس الفائت، بعثت تلك الفصائل “الولائية” رسائل إلى أمريكا ووكلائها في المنطقة تحذرهم فيها من مغبة التمادي في العدوان على محور وقادة المقاومة، مؤكدة إنها سترد بقوة وعلى جبهات مختلفة إذا ما تعرضت لاعتداءات غادرة.

في الرسالة أنفة الذكر، طلبت واشنطن من بغداد أيضا فتح “حوار إستراتيجي” لبحث المصالح المتبادلة بما فيها قضية إعادة تموضع قواتها في مناطق مختارة بعيدة عن اليد الطولى لـ”فصائل المقاومة” التي تحظى بثقل عسكري وتمثيل سياسي وبرلماني، وسبق للكثير منها القيام بعمليات مسلحة ضد الاحتلال الأمريكي خلال الفترة ما بين نيسان/أبريل 2003، وكانون الأول/ديسمبر 2011.

الانسحاب الجزئي في شكله والمثير في مضمونه، أثار جملة من الأسئلة الاستنتاجية والاحتمالية حول أسبابه ودوافعه التي أخذت تتواتر في الأوساط المعنية وخلف الكواليس أيضا.

التساؤل الأكثر طرحا هذه الأيام، هو هل جاء هذا التغير اللافت في عقلية “الكاوبوي” بسبب الخشية من الهجمات المنسقة والمتكررة التي تشنها من تصفها إدارة ترامب بـ”الميليشيات” على قواعدها ومعسكراتها؟ خصوصا وان سعر قذيفة “الكاتيوشا” التي أقضت مضاجع الأمريكان وحلفائهم وقتلت عددا منهم، لا يضاهي سعر صاروخ “الباتريوت” التي نصبت منظوماته أخيرا في قاعدتين من أصل ثلاث هي كل ما تبقى للوجود العسكري الأمريكي في العراق.  

أصحاب هذا التساؤل وهم من المناهضين للتواجد الأجنبي، حذروا كذلك مما أسموه “خطة جهنمية لخلق الفوضى والاضطراب في المناطق الرافضة للوجود العسكري الأمريكي”، وهو أمر لا يستبعده من يعرف “مكائد الشيطان الأكبر” كما يقولون.

وفيما يقرأ هؤلاء خطوة الانسحاب المفاجئة هذه، على إنها إذعان من بلاد “العم سام”  للفصائل العراقية المدعومة من إيران والتي تمتلك حاضنة سياسية واجتماعية كبيرة. يراه آخرون في الطرف المقابل بأنها: “مناورة أمريكية لإيقاف التصعيد الفصائلي.. ومحاولة لدعم رئيس الوزراء المكلف مصطفى الكاظمي المحسوب على المحور الأمريكي”.

وصحيح أن من تسلم رسالة “التهدئة” الأمريكية هو عادل عبد المهدي المحسوب على إيران، إلا أن المفاوضات الثنائية المقترحة بين بغداد وواشنطن مخطط لها في حزيران/يونيو المقبل، وهو موعد من المرجح أن يكون الكاظمي قد تسلم مقاليد الحكم رسميا إذا ما سارت الأمور على ما يرام.  

الفريق الأول الذي يحذر من نوايا أمريكا ومخططاتها الخبيثة، يؤكد أن الولايات المتحدة لا تصغي إلا لمنطق ولغة القوة والمواجهة العسكرية، مستحضرا تجارب فيتنام وكوبا وكوريا الشمالية وإيران بهذا الشأن.

بينما الفريق الثاني، يعول على التغيير الطفيف الطارئ حديثا على عقلية ساكن البيت الأبيض الذي قد يكون أخذ بنصائح المحللين الداعين للتهدئة وتغيير الإستراتيجية الأمريكية في العراق أو انشغاله بأزمة جائحة كورونا.

وأيضا التعويل على “براغماتية” رئيس الوزراء المُكلف الذي يؤكد مقربون منه أن سيمسك العصى من المنتصف في محاولة منه للتهدئة بين أمريكا وخصومها العراقيين، طبعا أذا ما كتب له النجاح في مهمة تشكيل الحكومة.

 

*حيدر نجم: صحفي وكاتب مهتم بتغطية الشؤون السياسية والعامة في العراق، عمل مراسلا لعدد من الصحف العربية من بينها جريدتا “الشرق الأوسط” اللندنية و”الرأي” الكويتية، ومحررا في دورية “نقاش” الأسبوعية. والآن يكتب تحليلات وقصصاً صحافية بشكل مستقل.

أقرأ أيضا